حكاية السي حمد

اتكأ السي حمد بساعده الأيمن على جدار المطبخ وركز بصره جيدا على إبريق الحليب. لن يخدعه هذه المرة. في كل مرة ينتظره الحليب حتى يستدير فيسيل على “البوطاغاز” تاركا إياه مع واحدة من أكره المهام لديه: التنظيف.
اتكأ السي حمد بساعده الأيمن على جدار المطبخ وركز بصره جيدا على إبريق الحليب. لن يخدعه هذه المرة. في كل مرة ينتظره الحليب حتى يستدير فيسيل على “البوطاغاز” تاركا إياه مع واحدة من أكره المهام لديه: التنظيف.

فكر أن الحليب سائل له روح وأنه مخادع جدا. يستحيل أن تضعه على النار وتنجح في ضبط لحظة الغليان حين يفور الحليب خارج الإبريق. لكنه هذه المرة قرر أن يرفع التحدي لهذا حافظ على تركيزه جيدا على الحليب والنار، ولا شيء غيرهما.

كان يفكر أنه وحيد جدا. منذ سافر أولاده إلى الخارج للعمل وزوجته إلى الدار الآخرة وهو يعيش لوحده، لا أنيس ولا رفيق. فقط ذكريات طنجاوية تأبى أن تغادر العقل والقلب.

أفاق من ذكرياته على صوت انطفاء جذوة النار بعد أن فاض الحليب من الإبريق كالعادة! ابتسم بمرارة وقرر أن يستسلم مثلما فعل مع أشياء كثيرة أخرى في الحياة. لن يراقب الحليب بعد الآن.

كان عليه أن يذهب الآن لإحدى المصالح الإدارية كي يقبض راتبه كمتقاعد. مجرد فتات يسمونه راتبا، لكنه على الأقل يكفيه كي يشرب قهوته وهو مرتاح البال لأنه سيستطيع أن يدفع ثمنها.

رغم أنه كان رجل إدارة إلا أنه لازال يشعر بنفس الشعور الذي انتابه لأول مرة عندما دخل الإدارة لإعداد بطاقة التعريف الوطنية: انقباض في المعدة ورغبة في الهروب فورا.

ردد بخفوت:

أكرهها وأشتهي وصلها، وإنني أحب كرهي لها.

في المساء، يعود السي حمد وهو يمشي ببطء. لا يبقى للمرء من تسلية بعد أن يتجاوز الستين سوى الأمراض التي تهاجمه ذات اليمين وذات الشمال ومن فوقه ومن تحته. آلام الظهر والسكر والتهاب المفاصل، والعائلة الكريمة كلها هنا في جسده تلهو وتمرح في انتظار أن يسلم روحه، بينما هو يحافظ على سيره البطيء تجنبا لأية مضاعفات من أي نوع.

لأول مرة منذ سنوات طوال، قرر السي حمد أن يختصر الطريق نحو بيته ويسلك أحد الدروب الممظلمة المقفرة الضيقة، خصوصا أنه أحس بعياء مفاجئ.

قبل أن يصل إلى نهاية الدرب بأمتار قليلة ارتطم به أحدهم حتى كاد يتعثر ويقع، وقبل أن يستعيد توازنه كان شخص آخر قد أمسك به من الخلف وهو يقول بصوت خافت، لكن قوي ومهدد:

* جبد اللي عندك.
* نعم آولدي؟
* آشمن ولدك.. جبد اللي عاندك ن الد…. ديماك.

لم يصدق السي حمد ما يسمع. لقد عاش مسالما طوال حياته ويصعب عليه أن يتصور أن يتعرض لهذا الموقف بعد أن كان يسمع عنه فقط. شيء يحدث للآخرين فقط وليس له.

بوقاحة وغلظة فتشه اللصان، قبل أن يخرج أحدهم بغنيمة السي حمد التي ينتظرها كل شهر وهو يبتسم بظفر. قال لهما السي حمد وقد يئس من أن يتركا له سنتيما واحدا:

– غير بالصحة، اللي عطا الله هو هادا! دابا نتوما تبغيو الوالدين ديالكوم يوقعلوم هايدا؟

كان السي حمد يتوقع أي جواب إلا ما حدث وقتها، فقد أحس بألم فظيع في بطنه قبل أن يكتشف متأخرا- مثلما يحدث دائما عند الصدمة- أن أحد المجرمين قد طعنه في بطنه بمدية حادة. وقبل أن تظلم الدنيا تماما أمام ناظريه لاحظ أن اللصين يمشيان بكل بطء وثقة وكأنهما انتهيا للتو من التهام ساندويش.

بعد هذا بأسابيع كان السي حمد في غرفته بالمستشفى محاطا بجميع أبنائه الذين حضروا من الغربة لزيارته. الطبيب قال له أنه محظوظ جدا وأن السكين جانبت الرئة بملمترات قليلة. كان السي حمد يتصفح أحد الجرائد عندما وجد خبرا عن تطويف مجرمين بالمدينة. قرب الجريدة من عينيه وتنهد في ارتياح وهو يوجه كلامه لأبنائه:

* الله يعطيهم الصحة. هاهوما شبروهوم. هوما هادي لي تعداو عليا أولادي.

وبتلقائية أبوية صادقة، قبــــّـــل السي حمد صورة رجل الأمن الذي كان يمسك بالمجرمين، وفي أسفل الصفحة قرأ خبرا آخر جعله يضحك لدرجة أن جرحه انفجر من جديد وكاد يودي بحياته لولا التدخل الطبي مرة أخرى.

وكان هذا الخبر يقول:

” صحافيون وجمعيات حقوقية تعترض على عملية تطويف المجرمين من قبل رجال الآمن”.

وقد ظل السي حمد لأيام طويلة يردد جملة واحدة:

-لاحول ولاقوة إلا بالله! لاحول ولا قوة إلا بالله!

عبد الواحد استيتو
stitou1977@yahoo.com

http://stitooo.blogspot.com

قد يعجبك ايضا
جار التحميل...