شارع الحرية مرآة تعكس وجه طنجة في عهد الازدهار كما في زمن التهميش
هو الشارع الرئيسي في طنجة خلال فترة الانتداب الدولي. كان مركز الحركة السياحية والتجارية بعاصمة الشمال، ومنفذا إلى السوق البراني ومنه إلى حواري المدينة بعد تعاقب العقود، ماذا بقي من ذاكرة أشهر شوارع طنجة؟
هو الشارع الرئيسي في طنجة خلال فترة الانتداب الدولي. كان مركز الحركة السياحية والتجارية بعاصمة الشمال، ومنفذا إلى السوق البراني ومنه إلى حواري المدينة بعد تعاقب العقود، ماذا بقي من ذاكرة أشهر شوارع طنجة؟
نادرة هي الشوارع التي تضم بين جنباتها الكثير من عبق التاريخ والكثير من المعالم التي تؤرخ لزمن مضى.. زمن راح ولن يعود.شارع الحرية في طنجة يشبه متحفا للماضي لكن من دون صور.. إنه الشارع الذي تحول في وقت من الأوقات إلى ما يشبه الأسطورة، ولايزال إلى اليوم يعني الشيء الكثير بالنسبة لتاريخ مدينة تتغير باستمرار. طنجة اليوم أصبحت مختلفة تماما عن ماضيها، إنها تتغير بسرعة الضوء، لكن شارع الحرية يظل مثل رجل عجوز يحكي أشياء كثيرة عن تاريخ هذه المدينة الغرائبية التي تشبه مطحنة كبيرة، لكنها مطحنة بشر.يبدأ الشارع من الجهة العليا، أي من جهة البوليبار، بمعلمتين أساسيتين في تاريخ المدينة. على اليسار توجد القنصلية الفرنسية، وعلى اليمين مقهى باريس،
أما الساحة فاسمها ساحة فرنسا، والناس يسمونها «ساحة الخصّة»، أي ساحة النافورة، لأنه توجد في الوسط أقدم نافورة في المدينة، وربما كانت الوحيدة في تاريخ المدينة قبل أن تظهر أخيرا العشرات منها في حدائق وساحات كثيرة في المدينة، وقرب النافورة مقهى اسمه «مقهى فرنسا». هكذا توجد في منطقة واحدة القنصلية الفرنسية وساحة فرنسا ومقهى باريس ومقهى فرنسا، إنها منطقة فرنسية بامتياز.مخزن ذكريات ومستودع أسرارالقنصلية الفرنسية في طنجة عرفت على الدوام أحداثا كثيرة، وكانت خلال العهد الدولي واحدة من الممثليات الدبلوماسية الأكثر نشاطا، ومساحتها المنتشرة على آلاف الأمتار في منطقة حساسة من وسط المدينة تدل على أنها كانت تفوق بكثير في أدوارها الدبلوماسية دور السفارة الفرنسية في الرباط. ففي العهد الدولي كانت طنجة بمثابة عاصمة العالم، والقنصليات والبعثات الدبلوماسية الموجودة فيها كانت تتفوق على السفارات الموجودة في الرباط، لذلك كانت المدينة تضم قنصليات كل البلدان الأوربية تقريبا بما فيها قنصليات بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا وهولندا والبرتغال وسويسرا والنرويج والسويد والدنمارك، إضافة إلى قنصلية الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت واحدة من أشهر وأكبر القنصليات الأجنبية في المدينة، قبل أن ترحل أخيرا وتترك مقرها في منطقة سوق البقر الراقية، لمجلس الجهة، وهو مجلس لا أحد في المدينة يعرف ما هي مهمته بالضبط.يعطي مقر القنصلية الفرنسية في طنجة إحساسا وارفا بالأبهة، لأنها حافظت على الكثير من سحر الماضي وسط الكثير من الأشجار والحدائق التي تجعل الداخل إليها يعتقد أنه خرج فجأة من وسط المدينة ودخل حديقة عجائبية. المسبح الوجود قرب الباب الكبير يزيد في إضفاء هالة من الرونق الرومانسي على المكان، خصوصا خلال حفلات الاستقبال التي تنظمها القنصلية بين الفينة والأخرى. إن هذه القنصلية خزان ذكريات وصندوق أسرار، لذلك تحيط نفسها بالأسوار والأشجار وكأنها تخاف أن يطلع الناس على أسرارها.لكن ليس كل ما في القنصلية يفوح بعطر الرومانسية، فالطوابير أصبحت تزداد طولا كل صباح قرب باب صغير يجاور المدخل الرئيسي، وطالبو الفيزا أصبحوا يتكاثرون يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وسنة بعد أخرى، ويأتون من مدن كثيرة. إنهم يقفون طويلا في الطوابير قبل أن يدخلوا إلى مكان صغير خلف القنصلية، وهناك ينتظرون المناداة عليهم بالأرقام ثم ينتظرون حظهم. بعض من يزورون هذه القنصلية يقولون إن المعاملة التي يلقونها فيها أقل سوءا من التي يلقاها الذاهبون إلى القنصلية الإسبانية… والله أعلم.مشاهير مروا من هنافي مبنى ملاصق للقنصلية توجد قاعة «دي لاكروا» حيث يعرض الفنانون لوحاتهم وأعمالهم الفنية.
من هذه القاعة مر فنانون تشكيليون كثيرون نحو العالمية. قبالة القنصلية على اليمين هناك ذلك المقهى الأسطوري الذي جلس على كراسيه كتاب ومشاهير ثم غابوا وتركوا مكانهم لسماسرة التأشيرات والأراضي والمنازل وعابرو سبيل يرتاحون والمتلصصون على سيقان النساء وصدورهن، أو عاهرات جئن من كل مكان وجلسن في مكان قصي في المقهى ينتظرن حظهن مع رجال أكثر بؤسا.في هذه المقهى جلس كتاب مشاهير مثل تينيسي وليامز ومحمد شكري وبول بولس وجان جينيه وممثلون ومخرجون قبل أن يأخذهم الزمن إلى حيث يأخذ الجميع.بضع خطوات نحو الأسفل يوجد أحد أقدم فنادق المدينة. إنه فندق المنتزه الذي لايزال إلى اليوم يستضيف شخصيات كبيرة تزور المدينة سواء من أهل السياسة أو الفن أو الرياضة. فيه نزل رئيس الحكومة السابق خوسي ماريا أثنار حين زار طنجة إبان فترته الحكومية. وعلى الرغم من أنه زار المدينة وهو في أوج سلطته، إلا أن الناس لا يتذكرون مقامه هنا كما يتذكرون مقام رئيس الحكومة الإسباني السابق فليبي غونزاليس، الذي كان ينزل بدوره في هذا الفندق قبل أن يختار إقامة أخرى على أطراف المدينة في منطقة أشقار على حافة مغارات هرقل.ومنذ أن ترك غونزاليس العمل السياسي سنة 1996، فإنه جعل من طنجة وجهته الأساسية. كان يخرج من الفندق رفقة بضعة مرافقين وينزل عبر شارع الحرية نحو المدينة القديمة وهو يصافح الناس ويتلقى مجاملاتهم بكثير من اللباقة والود. الناس في المدينة يتعرفون عليه أكثر مما يتعرفون على السياسيين المغاربة ويبادلونه أطراف الحديث عن إسبانيا ويفاجئونه بأنهم يعرفون الكثير عن هذا البلد الجار.الكثيرون يرون في فليبي صديقا كبيرا للمغرب، ويتذكرون فترة حكمه في إسبانيا التي دامت طويلا، وكيف كانت العلاقات بين البلدين في أحسن حالاتها، قبل أن يأتي خوسي ماريا أثنار وهو يلوح بسيف في يده مثل دون كيشتوت لتتوتر هذه العلاقة وتظهر قضايا خلافية كثيرة من بينها جزيرة تورة (ليلى) التي كادت تدفع بالبلدين إلى أتون مواجهة مسلحة. هكذا يحس غونزاليس بنفسه مغربيا في قلب طنجة.الحفاظ على الهويةقبالة الفندق كانت توجد واحدة من أعرق المدارس التي بناها المغاربة من أجل الصمود أمام التعليم الأجنبي الذي جلبه الاستعمار. كانت مدرسة مولاي المهدي معلمة في مجال التعليم المغربي الأصيل الذي يهدف إلى مقاومة التعليم الأوربي الذي لم يكن سكان المدينة ينظرون إليه بكثير من الارتياح. وعندما زار الملك الراحل محمد الخامس طنجة عام 1947 لإلقاء خطابه الشهير في ساحة 9 أبريل، فإنه زار هذه المدرسة التي كانت تمثل رمزا للحفاظ على الهوية المغربية في مدينة تتنازعها الهويات والجنسيات والحمايات والثقافات واللغات. كان مرور محمد الخامس من هذا الشارع في وقت حساس من تاريخ المغرب سببا في تحول اسمه إلى «شارع الحرية»، لأن على بعد خطوات منه ألقى الملك خطابه الشهير داعيا القوى الأوربية إلى منح المغرب استقلاله بعد أن وعدت فرنسا المغرب بمنحه الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن شارك الكثير من المقاتلين المغاربة إلى جانب فرنسا في الحرب وسالت أنهار من دمائهم لصالح مستعمرهم. أولئك المساكين كانوا وقودا في معركة ليست لهم. والغريب أن المدينة التي ألقى منها محمد الخامس خطاب الدعوة إلى الحرية والاستقلال هي نفس المدينة التي نزلت إلى أسفل اللائحة بعد الاستقلال وضربها التهميش قرابة نصف قرن من الزمن.ينزل المار عبر شارع الحرية قليلا أسفل الفندق فيجد بناية في طور الإصلاح، والتي كانت قبل سنوات مكتبة عامة يؤمها الطلاب من كل أطراف المدينة لكي يغرقوا بين صفحات كتبها القديمة باحثين عن مراجع ومعلومات. اليوم تنتظر تلك المكتبة مصيرها، ربما يفوتونها لأحد أغنياء الحرب ليفتح فيها مقهى أو مطعما أو متجر مثلجات. لم يعد للمدينة ما تخاف عليه.
تصوير: محمد النكري
روبرطاج: عبد الله الدامون
المساء