ألم يحن الوقت بعد لوضع النقط على الحروف؟..

لا يكاد يختلف إثنان أن مدينة طنجة تعرضت طيلة العقود الماضية لعملية سطو منظم وتشويه ممنهج على جميع المستويات، ومن عايش المدينة إبان فترتها الدولية سيقف على فداحة المجازر التي ارتكبت في حق مدينة لازال يصر البعض على وصفها بعروس الشمال، والحال أن الجميع

محمد العمراني*
لا يكاد يختلف إثنان أن مدينة طنجة تعرضت طيلة العقود الماضية لعملية سطو منظم وتشويه ممنهج على جميع المستويات، ومن عايش المدينة إبان فترتها الدولية سيقف على فداحة المجازر التي ارتكبت في حق مدينة لازال يصر البعض على وصفها بعروس الشمال، والحال أن الجميع يعرف أن هاته العروس قد فقدت عذريتها منذ سنوات وأصبحت لقمة سائغة بين يدي قوى الفساد والإفساد.

وعندما تسأل عن المتورطين في ما لحق المدينة من نهب للمناطق الخضراء وتشويه عمراني وزحف للعشوائيات وتدمير لأهم المعالم الأثرية وتحويلها إلى مجمعات إسمنتية، ستجد الإجابة شبه موحدة: إنهم المنتخبون الذين تعاقبوا على تدبير شؤون المدينة منذ ما بعد الاستقلال وإلى يوم الناس هذا…

فالناس يحكون قصصا وراويات عن بعض الكائنات الانتخابية التي عاثت في المدينة فسادا واغتنت من ورائها بمراكمة ثروات طائلة من خلال التموقع في مركز القرار على مستوى المجالس المنتخبة.

والحق يقال أن الكثير من هاته القصص لها جانب كبير من الموضوعية بالنظر لمسؤولية هؤلاء المنتخبين في اتخاذ قرارات ساهمت طيلة سنوات متعاقبة في إيصال المدينة إلى المستوى الذي نعيشه اليوم، ومنهم من استغل موقعه للاغتناء و مراكمة الأموال بلا رقيب ولا حسيب…

لكن هل من العدل أن نحمل كل ما لحق هاته المدينة من تشويه ودمار إلى المنتخبين وحدهم، وهل من الموضوعية أن نتهم المنتخبين بكل الجرائم التي ارتكبت في حق طنجة، وأنهم وحدهم أصل الشرور التي أصابتها؟…

كلنا يعلم أن المنتخبين يشتغلون تحت وصاية وزارة الداخلية، بمعنى أن مسؤولي الإدارة الترابية من قواد ورؤساء الدوائر وكتاب عامون وعمال وولاة هم أوصياء بقوة القانون على المنتخبين، وكل ما يقوم به هؤلاء يخضع لمراقبتهم ويتم تنفيذه تحت إشرافهم، ورجال السلطة هم من يمتلكون آليات تصحيح أي انحراف أو مخالفة للقانون أو تجاوز للصلاحيات المخولة للمنتخبين، سواء عن طريق القانون أو عن طريق استعمال القوة العمومية باعتبارها خاضعة لهم وتحت إشرافهم المباشر….

فهل نتصور أن رئيس جماعة أو مقاطعة بإمكانه أن يتخذ قرارا على مستوى التعمير مثلا ،لا يحترم فيه الضوابط القانونية، وكأن القائد أو رئيس الدائرة ولا حتى الكاتب العام أو العامل لا وجود لهم ولا علم لهم بما تم ارتكابه من تجاوزات؟….

وهل نتصور أن زحف البناء العشوائي الذي عرفته وتعرفه مدينة طنجة يتحمل فيه المسؤولية المنتخبون لوحدهم، والحال أن المسؤولين المباشرين على ما تعرفه المدينة من انتشار سرطاني للعشوائيات هم بالدرجة الأولى رجال الإدارة الترابية، فلهم جميع الوسائل القانونية والتنظيمية لمنع مثل هاته التجاوزات…

يجب الاعتراف أن السياسة التي تم اتباعها لسنوات عديدة كانت تقوم على إلصاق جميع الخطايا بالمنتخبين في حين كان يتم انتشال رجال السلطة من المتابعة كما تسل الشعرة من العجين، بينما المنطق والقانون يعفي الخاضع للوصاية من المساءلة أو في أسوء الأحوال يجب متابعته إلى جانب الوصي، بل إن العقوبة الزجرية يجب أن تكون أشد على الوصي من الموصى عليه…

لكن عند استرجاع وقائع المحاكمات والقرارات التأديبية التي اتخذت ببلادنا سنجد أنها كانت تقتصر في غالبيتها الساحقة على المنتخبين، وكأنهم يتوفرون على جميع الصلاحيات القانونية لممارسة مسؤولياتهم وبالتالي يستوجب مساءلتهم عليها…

وبالرجوع إلى مدينة طنجة، وعند استقراء السياقات التي تعرضت فيها المدينة للنهب وللتشويه العمراني، فإن الملاحظ سيخرج بقناعة راسخة لا يرقى إليها الشك، وهي أنه لم يكن من الممكن أن يحدث ما حدث لولا تقصير رجال السلطة، وفي الغالب تواطؤهم مع المنتخبين للتغطية على المخالفات وجرائم النهب التي ارتكبت في حق عاصمة البوغاز…

وعندما تجد مسؤولا بالإدارة الترابية يقوم بواجبه عبر مراسلة الرئيس المنتخب لإخباره بما تم ارتكابه من مخالفات و رفع التقارير إلى رؤسائه فإن الدافع وراء ذلك إما أن تكون هناك علاقة متوترة بين الطرفين ولم يعد هناك مجال للتفاهم حول اقتسام المكاسب والغنائم، وإما أن يكون رجل السلطة مجبرا على ذلك لأن حجم المخالفة يمكن أن يثير احتجاجات المواطنين بشكل يصعب معه لملمة الموضوع وبالتالي فإنه يكون مضطرا لإخلاء مسؤوليته تجنبا للمتابعة…

أما الواقع المعاش فإن مسؤولي الإدارة الترابية غالبا ما يشكلون مع المنتخبين تحالفا مصلحيا يكون مبنيا على منطق “سيدي قاسم” ، ” كول و وكل”، بل تجد، في أكثر من منطقة، مسؤولي الإدارة الترابية هم المستفيدون بالدرجة الأولى من المغانم المتحصلة عن طريق تغاضيهم على خرق القانون، لكن مع فرق بسيط أنهم يجيدون ارتداء القفازات البيضاء ويشتغلون وراء الستار ويتحكمون في المنتخبين بطريقة تشبه تلك التي يتم بها تحريك عرائس القصب من وراء الستار….

إن السياق المغربي الجديد الذي نعيشه بفضل التحولات الدستورية والسياسية التي تجتازها بلادنا منذ المصادقة على دستور فاتح يوليوز 2011 ، يستوجب بالضرورة إعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وهو مبدأ لن تتمكن بلادنا من تحقيق الانتقال الديمقراطي من دون تفعيله على الوجه الأكمل، فلم يعد مقبولا أن يتم توجيه صكوك الاتهام للمنتخبين وحدهم، مع التأكيد على أن هناك نماذج فاسدة يتوجب متابعتها قانونيا، لكن لا بد أيضا من متابعة مسؤولي الإدارة الترابية باعتبارهم أوصياء على المنتخبين، وأيضا بسبب تقصيرهم أثناء ممارسة مهامهم من خلال التغاضي عما يرتكب من مخالفات…

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نطلق شعارات محاربة الفساد والإفساد من دون التأسيس القانوني لتنزيل هاته الشعارات على أرض الواقع، فالحكومة مطالبة بتنزيل المنظومة القانونية المؤطرة لصلاحيات الجماعات الترابية ترتكز أولا على تحديد المسؤوليات، والحسم فيما يعرف بسلطة الوصاية مع تحميل كل طرف لمسؤولياته على أساس ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي غياب ذلك فإن كل ما يقال عن فساد المنتخبين سيبقى مجرد ذر للرماد في العيون دون أن نصل إلى اجثتات الفساد من منابعه…

مع كل أسف، فإن المواطن كان يراهن على هاته الحكومة، بما لها من صلاحيات دستورية لم تتحقق لسابقيها، من أجل تنزيل القوانين المؤطرة لمجال تدبير الشأن العام بشكل يعطي الأولوية للحكامة والشفافية والمحاسبة، لكن يبدو أن الحكومة منشغلة بالحروب الداخلية وتوزيع الاتهامات حول العفاريت والتماسيح والحلوف، أما شعارات محاربة الفساد فإنها ستبقى مجرد شعارات يلجأ إليها رئيس الحكومة للاستهلاك والتوظيف الانتخابي والمزايدة على خصومه السياسيين لا أقل ولا أكثر…

* عن جريدة طنجة

قد يعجبك ايضا
جار التحميل...