في المساء، أطلت سوزان بفستان ساحر ذي لون أحمر غامق يخطف الأنظار. أمسكت بذراعي ورحنا على قاعة حفل زفاف في “سيفن سيستر” شمال لندن. ارتديت بدلة أنيقة مع ربطة عنق زرقاء، وحذاء أسود من نوع كلارك، فيما فستان سوزان كان من قماش الشيفون مع حذاء لامع بكعب عال زادها بهاء وإثارة. كانت تمشي ممشوقة القوام، مرفوعة الرأس، وكأنها أميرة يونانية، يفوح جسدها بعطر “ميس ديور” العابق بشذى الهيام، تسريحات شعرها كستنائي تنساب على كتفيها الناعمتين.
باب القاعة خشبي ضخم مقوس يشبه بوابة بيت عتيد أرستقراطي، تعلوه يافطة بيضاء مكتوب عليها بخط ذهبي عريض “مرحبا بضيوفنا الغالين”!
على جوانبه تقف شابتان فاتنتان بلباس يوناني تقليدي، توزعان على المدعوين ابتسامات ناعمة مع وردة حمراء لكل واحد منهم.
دلفنا إلى قاعة شاسعة مزينة بديكورات ملونة براقة، نمشي مزهوين في الممر على بساط أحمر بخطوات متثاقلة على وقع موسيقى هادئة أعدت لاستقبال الضيوف. أجول بخاطري بين أرجاء القاعة الفارهة، أوزع نظراتي وابتساماتي على باقي المدعوين، لفحت وجهي روائح عطور قوية ممزوجة بالبلسم والزهور، وقفت هنيهة أنظر منبهرا إلى فضاء بهي، وكأنني في حلم!
بمجرد ما تجاوزنا الممر، استقبلتنا شابة جميلة بلباس إغريقي، كانت أول مرة في حياتي أحضر حفلا راقيا مماثلا. أومأت لنا برأسها أن نتبعها، سرنا خلفها وقد طفحت على وجهي ملامح الإنبهار. أخذتنا نحو مائدة مستديرة ملفوفة بغطاء أبيض مطرز بلون توركواز، ومؤثثة بباقة ورود ملونة مع شمعدان كريستال لامع مضيء. على سطح المائدة صحون بيضاء مزينة بخطوط فضية مع مناديل ناعمة، شوكات وسكاكين فضية لامعة موضوعة بعناية على حواشي الصحون.
قدمتني سوزان لأفراد عائلتها كصديق تعرفت عليه في ورشة العمل، قائلة:
– يشرفني أن أقدم لكم صديقي عبدو من المغرب، جاء ليؤثث بحضوره معنا حفل زفاف كارمن. احمر وجهي خجلا، ارتبكت قليلا وارتسمت على وجهي ابتسامة عريضة. جلست متوسطا سوزان ووالدتها هيلينا، على يمينها يجلس أخوها توماس رفقة زوجته البدينة، قبالتي أخت سوزان كريستينا مع زوجها الصحافي أندريس.
صرنا سبعة أشخاص حول المائدة، مغربي واحد يتوسط ستة قبارصة يونانيين. برقت في ذهني مقولة صديقي كريم المتزوج بشابة إنجليزية حين سألته: ما هو إحساسك عندما تجالس أصهارك النصارى في بيتهم ؟ صدمني برده قائلا: أشعر وكأني فص ثوم بين حبات مندرين.
أعيش نفس وضع كريم اليوم. لم يسبق لي أن خالطت النصارى في أفراحهم ولا في أحزانهم من قبل. طالعت وجه هيلينا فوجدتها تسترق النظرات إلي، قرأت في عينيها حزنا عميقا، زوجها للتو هجرها إلى امرأة أخرى كما حكت لي سوزان، وهذا يفسر عدم حضوره حفل زفاف كارمن. لا شك أن قلب هلينا مكلوم ولن تغفر لزوجها صنيعه، مثل هذا الجرم يظل عالقا في ذاكرة النساء إلى الأبد.
همست هيلينا في أذن ابنتها سوزان مبدية رأيها في قائلة: إن عبدو يشبه القبارصة كثيرا في سحنتهم، لا أحد سيخمن أنه عربي أتى من شمال إفريقيا.
عندما تراها تحسبها مثل امرأة غجرية، تحمل نظارات طبية وتزم شفتيها الضيقتين، ذلك أنها لا ترقى إلى حسن وجمال النساء العربيات. ظل أخوها توماس يصوب إلي نظرات مريبة، وكأني نزلت عليهم من كوكب بعيد.
استجمع توماس شجاعته وبادرني بسؤاله:
– ماذا تشتغل يا عبدو ؟
أجبته، أنني طالب أدرس تكييف الهواء في معهد التكنولوجيا بطنجة.
رد علي قائلا:
– أنا أستاذ أدرس التاريخ في إحدى مدارس شمال لندن. مضيفا وكأنه يمتحنني في مادة التاريخ:
– ماذا تعرف عن اليونان ؟
– أعرف أفلاطون، أوناسيس، ودميس رسوس !
ضحك الرجل ملء شدقيه وعلق قائلا:
– إذن تعرف الكثير عن بلدنا، راقني هذا المزيج من الشخصيات اليونانية التي ذكرت !
– والدي أيضا يشتغل مدرسا مثلك في المغرب، ولديه إلمام بعلوم الدين والتاريخ.
– دعنا من الدين جانبا ولنتحدث في التاريخ !
استرسل قائلا:
– بحثت في كتب التاريخ، فلم أجد أية روابط بين الإغريق والمغرب.
– هذا غير صحيح سيدي، ألم تسمع بمغارة هرقل المطلة على المحيط الأطلسي في شمال المغرب ؟!
اندهش توماس من كلامي وقال:
– هل تقصد هرقل ابن زيوس المعروف في الميثولوجيا الإغريقية كمصارع لآلهة الشر ؟
أجبته بكل ثقة:
– نعم إنه هرقل الأسطورة الذي انتقل من اليونان إلى مغارته الشهيرة بطنجة قبل خمسة آلاف من السنين.
علق أندريس على جوابي قائلا:
– لم يسبق لي أن سمعت بهرقل الإغريقي انتقل إلى مغارة بطنجة في التاريخ القديم، لكن سمعت باليوناني الأمريكي إيون برديكاريس الذي انتقل للعيش بطنجة في نهاية القرن التاسع عشر..
– أجبته:
– كلامك صحيح فيما يخص برديكاريس، لكن هرقل أيضا انتقل للعيش بمغارة مهيبة مطلة على مياه المحيط الموحش، هكذا تقول الأسطورة.
بدا توماس مصعوقا بكلامي، فرد علي مندفعا بعدما أومضت ذهنه بمعلومات جديدة:
– إذن حدثنا عن أسطورتك المغريبة ؟!
لذت بصمت قليل، ثم استرسلت:
– تحكي الأسطورة الإغريقية أن هرقل مكث في مغارته بطنجة بعدما صارع قراصنة البحر، وذات يوم خاض قتالا شرسا مع وحش هائل، وأثناء ساعة غضب قوي، ضرب الجبل فانشق إلى جزئين، لتختلط مياه البحر المتوسط الزرقاء بمياه المحيط الأطلسي، وتنفصل أوروبا عن إفريقيا.
أطلقت زوجة توماس ضحكة هازئة وقالت:
– كل ما تحكيه ترهات وكذب يا عبدو!
رددت عليها بابتسامة خبيثة:
– من دون الكذب تتحول الحياة إلى أكلة سمجة، فهو ملحها حتى لا تظل رتيبة وضجرة…