طنجة الثقافة تقاوم طنجة الإسمنت
لطنجة نكهة خاصة. أهلها يعتبرونها هبة سماوية، إذ الحياة قبلها لم تكن حياة. بعض “الطنجاويين” يجزمون أن اسمها مشتق من “طين” و “جا” أي ظهر وبرز وانبلج. طنجة تكونت إذن واستوت على البوغاز حينما انفلق البحران المتوسط والأطلسي، وظهر الطين مادا عنقه نحو أوربا
لطنجة نكهة خاصة. أهلها يعتبرونها هبة سماوية، إذ الحياة قبلها لم تكن حياة. بعض “الطنجاويين” يجزمون أن اسمها مشتق من “طين” و “جا” أي ظهر وبرز وانبلج.
طنجة تكونت إذن واستوت على البوغاز حينما انفلق البحران المتوسط والأطلسي، وظهر الطين مادا عنقه نحو أوربا. طنجة مدينة أسطورية بلا شك، وهذا ما يدفع المغامرين والآفاقيين لمراودتها عبر ثغرها المفتوح على أوربا والعالم.
أهل طنجة مغرمون بقص تاريخها وروايته كما تروى قصص الآلهة عند الإغريق. لكل قاص قصته، ولكل راو روايته. طنجة ليست عالما واحدا بل عوالم، يقول رشيد التفرسيتي كاتب طنجة وعاشقها الأول. قد يخجل كاتب أو يغضب إذا قورن اسمه بمكان ما دون غيره، إلا كتاب طنجة، فهم يفتخرون بها ويفاخرون بها غيرهم. من ينازع “طنجاوية” محمد شكري كمن ينازعه حقه في الوجود. من يذكر بولز دون طنجة، أو زوجته جين أو التفرسيتي أو عبد اللطيف بن يحيى الشاعر وغيرهم كثير.
حينما يصل الغريب إلى طنجة يحس وكأن الرحلة انتهت.
لطنجة نكهة خاصة، لأن التناقضات فيها تتعايش بلا تشويش ولا انقباض خاطر. الحياة فيها تستمر على مدى الليل والنهار، وليالي طنجة ليس لها أسرار إلا ما ظهر. خذ ‘شارع الشياطين’ مثلا، اسم رمزي بطبيعة الحال، لكن زوار أحد فنادقه المعروفة لا يقصدونه في آخر الليل للراحة الجسدية بعد تعب التسكع في أزقة المدينة القديمة الضيقة. لكنهم يقصدونه للبحث عن سعادة عابرة تسهر على تقديمها بائعات هوى بلا ملامح. ولمقهى باريز المقابل للقنصلية الفرنسية رواده أيضا. هؤلاء يشبهون رواد “فوندل بارك” في أمستردام بعد مغيب الشمس. وليس ببعيد عن مقهى باريز رصيف ترسو إليه داعرات “الدرجة الثالثة”، وأمام الرصيف شرطي ينظم السير، سير السيارات.
وأنت تقترب من الشاطئ من جهة “النجمة” يصادفك ليلا عالم آخر؛ عالم ‘الثالوث المحرم’ ـ مع الاعتذار لبوعلي يسن: المال والمخدرات والجنس.
عندما تتوقف الحياة في هولندا بعد السابعة مساء، تبدأ حياة جديدة في طنجة. طنجة هي الحياة الدائمة واليد الممدودة والحضن المفتوح. هجاها شاعر الحمراء في قصيدة مشهورة فسامحت وعفت. رحل الشاعر إلى دار البقاء، وبقيت القصيدة شاهدة.
في ساحة “سوق البراني” يتزاحم الراجلون للاستراحة أمام نافورة ماء تبدو حديثة التشييد. الساحة رممت حديثا حينما ترشحت مدينة طنجة لاحتضان المعرض الدولي ’إكسبو 2012’. خسرت طنجة المنافسة وربح الطنجاويون ساحة جميلة، كما ربحوا فضاءات أخرى ذات طابع ثقافي، موزعة على أرجاء المدينة القديمة. مقابل الساحة تقع قاعة عرض سنمائية ـ سينما الريف ـ التي تحولت إلى مركز ثقافي يهتم بإبداعات الشباب، ويحوي كذلك ‘الخزانة السينمائية بطنجة’.
طنجة الثقافة ما تزال تقاوم طنجة ‘الإسمنت’. الكاتب رشيد التفرسيتي الذي يعرف طنجة من الوريد إلى الوريد، ونشر كتبا مصورة عنها، يرى أن سحر طنجة وعالميتها باقيان رغم زحف الإسمنت وعشوائية التسيير الإداري. كما إنه يعارض فكرة العودة بطنجة إلى عهدها السابق، أي جعلها مدينة ‘دولية’ ومنطقة ‘حرة’. طنجة مرتاحة تحت وضعها الحالي رغم التحولات واختلاط المال والجنس والمخدرات فيها. تقول راشيل مويال الطنجاوية في كتابها عن سنوات تسييرها لمكتبة ‘الأعمدة’ في طنجة، إن الوزير أحمد بلافريج ـ ترأس الحكومة الثانية بعد استقلال المغرب- أكد لها خلال إحدى زياراته للمكتبة أنه فعل المستحيل لإبقاء طنجة في وضعها الدولي المفتوح تحت السيادة المغربية. “يعلم الله أنني فعلت ما بوسعي كي تحافظ طنجة على وضعها المتميز ضمن المملكة المغربية”.
هل يتحسر الطنجاويون على ماضي طنجة الفريد؟ هنا من يرى أن طنجة الحقيقية لا وجود لها إلا في المخيلة.
يا من غدا ينتوي طنجة سفرا .. إياك، إياك ….
محمد أمزيان *
* تـُنشر هذه المادة في إطار الشراكة المعقودة بين المجلة الإلكترونية طنجة نيوز والقسم العربي في إذاعة هولندا العالمية.