إسبان فضلوا إنهاء حياتهم في طنجة

هم حوالي 40 مسنا إسبانيا اختاروا قضاء خريف حياتهم في المغرب، ولكن غير بعيد عن التراب الإسباني. فهم يعيشون بين الجدران الواسعة لدار العجزة ذات طابع هندسي استعماري.

طنجة نيوز – بتصرف عن «إيفي» الإسبانية
هم حوالي 40 مسنا إسبانيا اختاروا قضاء خريف حياتهم في المغرب، ولكن غير بعيد عن التراب الإسباني. فهم يعيشون بين الجدران الواسعة لدار العجزة ذات طابع هندسي استعماري.

من مستشفى إلى دار العجزة
شيدت دار العجزة هذه، والتي كانت في الأصل عبارة عن مستشفى إسباني قبل حصول المغرب على الاستقلال سنة 1950، وسط عاصمة البوغاز، المدينة المينائية الصاخبة. يوجد هذا الملجأ الاستثنائي وسط بستان من أشجار الصنوبر والنخيل والكينا، مانحا لهؤلاء النزلاء المسنين جوا من الراحة التامة قل نظيره، ليس فقط هنا، بل حتى في إسبانيا، مما زاد من تعلقهم بهذه المدينة التي يرفضون مغادرتها.

يتم التعامل معهم هنا كما لو أنهم في حانة في الجزيرة الإيبيرية، إذ تمنح لهم لائحة الأطعمة التي يرغبون في تناولها: عجة البطاطس.. الغازباتشو(حساء إسباني مشهور في جنوب البلاد).. وغيرها من المأكولات الإسبانية الخالصة. كل هذا يكرس لديهم الاعتقاد بأن مدينة طنجة «أكثر إسبانية من كثير من المدن الإسبانية»، كما قال لنا النزيل خوسي لويس، الذي ولد وترعرع وشاخ في المغرب.

على غرار خوسي لويس، فكل نزلاء هذه الدار تقريبا من الإسبان الذين شبوا وشابوا فوق هذه الرقعة الجغرافية، ويعيشون هنا منذ كان الشمال المغربي خاضعا للحماية الإسبانية ما بين 1912 و1956، أكثر من ذلك، فهم يكتنزون قصصا وحكايات تبدو وكأنها مستوحاة من رواية «الوقت بين ثنايا الغرز» (El tiempo entre costuras)، للكاتبة الإسبانية ماريا دوينياس بينويسا.

إعلان

يبلغ خوسي لويس بيتالوا الـ82 عاما، كان يلقب في شبابه بـ»طرزان»، لأنه كان بطلا في المصارعة الحرة؛ أما ماريا دولوريس سانتشيز، التي تبلغ من العمر الـ89 عاما، فقضت كل حياتها بالمغرب، وشغلت عدة وظائف على مدى حياتها المديدة، منها تقلدها لمنصب المسؤولية في «شركة كوكا كولا».

ورغم نشأتها وسط المغاربة واختلاطها بهم، فهي حافظت على لسانها الإسباني. ويعش هنا كذلك الحلاق خوان بيرناردو غيين، الذي مرت على كرسي صالونه – كما يقول- كل أسرار هذه المدينة العالمية، التي فتحت ذراعيها لمشاهير السياسة والأدب والموسيقى…

خوان كارولس جزء من ذاكرة الدار
يقتسم خوسي لويس ودولوريس وخوان بيرناردو ذكريات مدينة أصبحت أسطورية مع مرور الزمن. المدينة التي كانت لإسبانيا فيها الريادة والهيمنة بفضل الـ40 ألف مواطن إسباني الذين كانوا يقيمون بها. ودار العجزة هذه المشيدة (على مساحة 12 هكتارا وسط المدينة)، والمحاذية للقنصلية الإسبانية، ومعهد «سيفيرو أوتشوا»، و»كوليج رامون وكاخال»، هي جزء فقط من بين التراث الضخم لإسبانيا بمدينة طنجة، على غرار الكنائس والمسارح الإسبانية، بل حتى الساحة الشهيرة «una plaza de toros»، أيام الزمن الجميل.

عند البحث في خبايا هذه الدار، تكتشف أسرار لا تقل قيمة عن رمزية المكان. في «الكتاب الذهبي» لهذه المؤسسة التي كانت مستشفى في السابق، توجد صور لأشهر المشاهير الذين استضافهم هذا المكان، على رأسهم الملك السابق خوان كارلوس دي بوربون، الذي دخل هذا المستشفى بعد معاناته من التهاب الزائدة الدودية في رحلة قام بها إلى طنجة سنة 1954، (أي ما يقارب عقدين قبل توليه العرش)، حيث قدمت له الإسعافات الأولية في إحدى غرف هذه المؤسسة الصحية التي كانت تتوفر حينئذ على 200 سرير و14 طبيبا مقيما.

استثناء وسط المغرب
على الرغم من أن المستشفى، على غرار مجموعة من المؤسسات الأوروبية، تراجعت خدماته مع حصول المغرب على الاستقلال، ومغادرة الكثير من الأوربيين للمدينة، إلا أن إسبانيا حافظت على البناية كملكية لوزارة الخارجية، قبل أن تقرر سنة 1996 تحويلها إلى دار العجز لاحتضان الإسبان المسنين الذين يتشبثون بالبقاء في طنجة. ولعل من بين أسرار تفضيلهم البقاء على المغادرة، وجود مطاعم في خدمة الجميع بدون استثناء وبالتساوي، لا فرق بين غني ولا فقير، علاوة على التطبيب وقاعات العلاج وصالون للحلاقة، وقاعة إعادة التأهيل، ومراكز للحفاظ على اللياقة البدينة والحدائق: تبدو هذه الخدمات سرابا في بلد مثل المغرب، إذا أنه حسب منظمة (HelpAge) المهتمة بجودة حياة الشيوخ في العالم (بناء على الخدمات الصحية و القدرة الشرائية والولوج…)، فالمغرب متأخر في هذا المجال باحتلاله المرتبة 48 من بين الـ96 بلدا التي شملها هذا البحث.

من جهة أخرى، اعترف مدير الدار، الدكتور فيرناند كانياس، بأن المكان يثير غيرة عجزة بلدان أخرى، بمن فيهم بعض المقيمين بطنجة (من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا)، «لكننا لا يمكننا احتضانهم، لأنه من أجل حجز مكان هنا، يجب عليك أن تكون حاملا للجنسية الإسبانية، وأن تكون قضيت عشر سنوات دائمة بالمغرب». أما ملفات بعض الطلبات الاستثنائية، فتتم دراستها من قبل المجلس المسير، كما هو حال بعض الإسبان الذين غادروا عاصمة البوغاز سابقا إلى إسبانيا، ومن بعد ذلك عادوا إلى هذه المدينة حيث ولدوا.

يعيش حوالي 2000 إسباني في طنجة حاليا، 250 منهم تجاوزا 65 عاما. وعليه، فلديهم الحق في ولوج هذا المركز؛ لكن أغلبهم يفضلون الاستفادة من خدمات المطعم يوميا فقط دون المبيت، علاوة على الاستفادة من الخدمات الصحية مرة في كل أسبوع.

ربما لا يدرك هؤلاء العجزة امتياز العيش في هذا المكان. لكن كما قالت لنا العجوز فيرمينا بصوت منخفض: «أنت أدرى بالأمر؟ على كلّ، العيش هنا لا يكلفنا ولو سنتيما واحدا».

قد يعجبك ايضا
جار التحميل...