مساهمة في النقاش العمومي حول مدى دستورية المادة 9 من مشروع قانون مالية 2020

بقلم أيوب أخريف باحث في المجال القانوني منتدب قضائي من الدرجة الثانية

ما تزال المادة التاسعة من قانون المالية المغربي لسنة 2020، التي جرت المصادقة عليها في مجلس النواب، مؤخرا، موضوع جدل واسع ومثار ردود فعل غاضبة , نظرا للمرحلة التاريخية الفاصلة التي يمر بها المغرب و التي تعرف استكمال بناء دولة الحق و القانون و مواكبة التطور السريع للمحيط الدولي الدي يؤكد على تكريس ثقافة حقوق الانسان.

و تنص المادة 9 من مشروع قانون المالية رقم 70.19 للسنة المالية على ما يلي:
“يتعين على الدائنين الحاملين لسندات أو أحكام قضائية تنفيذية ضد الدولة ألا يطالبوا بالأداء إلا أمام مصالح الآمر بالصرف للإدارة العمومية. في حالة صدور قرار قضائي نهائي اكتسب قوة الشيء المقضي به، يدين الدولة بأداء مبلغ معين، يتعين الأمر بصرفه داحل أجل أقصاه ستون (60) يوما ابتداء من تاريخ تبليغ القرار القضائي السالف ذكره في حدود الاعتمادات المالية المفتوحة بالميزانية.

يتعين على الآمرين بالصرف إدراج الاعتمادات اللازمة لتنفيذ الأحكام القضائية في حدود الإمكانات المتاحة بميزانياتهم، وإذا أدرجت النفقة في اعتمادات تبين أنها غير كافية، يتم عندئذ تنفيذ الحكم القضائي عبر الأمر بالصرف المبلغ المعين في حدود الاعتمادات المتوفرة بالميزانية، على أن يقوم الآمر بالصرف باتخاذ كل التدابير الضرورية لتوفير الاعتمادات اللازمة لأداء المبلغ المتبقي في ميزانيات السنوات اللاحقة . غير أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخضع أموال وممتلكات الدولة للحجز لهذه الغاية”.

لا شك أن امتناع الإدارات و المؤسسات و الجماعات الترابية عن تنفيذ الأحكام و القرارات القضائية وفق منطوق المادة 9 من قانون المالية رقم 70/ 19 للسنة المالية 2020 . يشكل خطرا على حقوق الأفراد وضربا لمؤسسة دولة الحق و القانون و دمارا لبنية الصرح الديمقراطي . وتشكيكا لفعالية المقتضيات الدستورية ، لأنها تخرق بذلك مقتضيات الدستور الذي ينص في فصله 126، على آن الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع و يجب على السلطات العمومية تقديم المساعدة اللازمة أثناء المحاكمة إذا صدر لها الأمر بذلك ويجب عليها المساعدة على تنفيذ الأحكام كما ينص الدستور في فصله 89، على أن :” الحكومة تمارس السلطة التنفيذية وتعمل تحت سلطة رئيسها على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين والإدارة موضوعة تحت نصرفها كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات ألعمومية ” وتفرض هذه المقتضيات الدستورية على الحكومة في شخص رئيسها محاسبة ومؤاخذة الإدارة في شخص ممثلها ألقانوني عن عدم تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية الصادرة ضدها بما تقتضيه هذه المحاسبة والمؤاخذة من إمكانية إنزال عقوبات تأديبية عليه طبقا لما يقتضيه مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.

وإذا كانت القاعدة تقول أن ذمة الدولة مليئة دائما ملاءة تامة و أنه لا يمكن أن نتصور وقوعها في حالة إعسار و أنه بالتالي لا يكن أن يتصور جواز الحجز على أموال الدولة العامة نظرا لحاجة المرافق العامة لهذه الأموال في ممارسة مهامها و حتى لا يتعطل سير هذه المرافق. فالأموال العامة للدولة والأشخاص الاعتبارية العامة لا يجوز الحجز عليها تحفيظا كان أم تنفيذيا على اعتبار أن هذا الإجراء يتعارض مع مبدأ تخصيص تلك الأموال للمصلحة العامة وان الحجز بهذا الشكل يعطل سير المرافق العامة ويحول دون تنفيذها لوظيفة النفع العام الملقاة على عاتقها وان هذا الحجز غير المرغوب فيها لهذا السبب سينقلب في النهاية إلى بيع قضائي وان البيع الاختياري بالأولى غير حائز في هذا الشأن بإجماع الفقه والقضاء وإن كان هذا الأخير يتفق على أن عدم جواز الحجز هذا قاصر على ما يلزم لسير المرفق العام فإذا كانت هنالك بعض الأموال غير مخصصة لإدارة المرفق العام ولا يتعارض الحجز عليها مع سيره تعتبر أموالا خاصة لهذا المرفق و يمكن الحجز عليها وهذا الاتجاه المؤيد فقها هو الذي يؤخذ به العمل القضائي الإداري تقريبا في جميع المحاكم الإدارية وقد سبق لوزير الداخلية المغربي أن أشار ، إلى أن ممتلكات الجماعات العمومية التي لا تقبل أن تكون محلا للحجز هي الأموال العمومية وحدها دون الأملاك الخاصة التي ليس هناك من الناحية القانونية والقضائية ما يمنع إيقاع الحجز عليها.

وفي هذا الإطار فقد استقر الاجتهاد القضائي على مستوى الغرفة الإدارية بمحكمة النقض على رفض إيقاع الحجز التحفظي على العقارات المملوكة ملكية خاصة للشخص المعنوي العام بعلة أنه يعرض فيه ملائمة الذمة ولا يخشى عليه العسر ويؤدي ديونه وفق قواعد المحاسبة العامة وهو ما جاء في قرارات أخرى للغرفة الإدارية.

ومن الاجتهادات القضائية الحديثة ما قضت به المحكمة الإدارية بوجدة حيث رفضت المصادقة على الحجز لدى الغير الذي يجري على الأملاك العامة معللة حكمها بأنه من شأن الحجز أن يعرقل عمل الإدارة في تحقيق النفع العام ويؤدي بالتالي إلى المساس بمبدأ سير المرافق العامة بانتظام واطراد إضافة إلى الاحتجاج بفكرة أن الإدارة لا يفترض عسرها.

إلا أنه في مقابل هذا الحظر نجد ضرورة تنفيذ الأحكام القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به احتراما لمبدأ المشروعية و سيادة القانون مما يجعل الدولة هي الأولى من أن تكون ملزمة دائما بالخضوع للقانون في كل الأعمال التي يقوم بها من جهة ووجوب حماية الملكية الخاصة من جهة أخرى. وهدا ما تأكده التوجهات الملكية في هذا الصدد، حيث عبر جلالة “الملك الحسن الثاني” رحمه الله في الخطاب التاريخي 31/08/1982، مشيرا إلى تقاعس كبار المسؤولين عن تنفيذ الأحكام القضائية حيث اعتبره أنه يمس بسيادة الدولة حيث قال : “…عدم تنفيذ الأحكام القضائية والتماطل يجر المرء إلى تفكر آخر هو انحلال الدولة”.

كما أكد الملك محمد السادس نصره الله في خطاب افتتاح الدورة التشريعية السابعة بتاريخ 10 أكتوبر 2003 حيث نص على أن: “لتوفير كل شروط العدل والإنصاف مع السرعة في البت في القضايا والتعجيل بتنفيذها” . وكذا خطاب الملك محمد السادس بتاريخ 20 غشت 2009 بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب ينص أيضا على أن : ” …. وتسهيل ولوج المتقاضين إلى المحاكم وتسريع وتيرة معالجة الملفات وتنفيذ الأحكام”.

“المواطن يشتكي بكثرة، من طول وتعقيد المساطر القضائية، ومن عدم تنفيذ الأحكام، وخاصة في مواجهة الإدارة، فمن غير المفهوم أن تسلب الإدارة للمواطن حقوقه، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها، وكيف لمسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي؟ ”. خطاب دورة أكتوبر 2016

إن تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية الصادرة في مواجهة الإدارة مسألة ترتبط أولا وأخيرا بشرف هذه الإدارة التي يفترض فيها أن تنصاع تلقائيا لحكم القانون وبالتالي حتمية التزامها بتنفيذ أحكام تصدر “باسـم جلالة الملك و طبقا للقانون” ، لكن قد تخالف الإدارة هذا الالتزام في بعض الحالات إن لم نقل دائما وقد تستند إلى مبررات قانونية أو إلى مبررات واقعية يفرضها واقع الأمر.

فتنفيذ الأحكام القضائية دعامة للعدالة سواء عن طريق التنفيذ الاختياري أو الجبري ، و هو غاية يتوخاها كل متقاضي صدر الحكم لصالحه في مواجهة أي شخص كان سواء كان شخصا طبيعيا أو شخصا معنويا، وسواء كان الشخص المعنوي خاضعا لأحكام القانون الخاص أو خاضعا لأحكام القانون العام , فالعدل لا يتحقق إلا من خلال تنفيذ الأحكام القضائية التي ينطق بها القاضي سواء كانت عقارية جنائية أو مدنية.. و الواقع أن الأحكام التي تصدر من القضاء في الدعاوي المرفوعة إليه تشهد مجموعة من المعيقات تحول دون تنفيذها على الواقع . ذلك أننا نرى من وجهة نظرنا انه متي صار الحكم نهائيا وذيل بالصيغة التنفيذية تعين على أعوان القضاء المختصين بالتنفيذ اتخاذ جميع إجراءات التنفيذ على المحكوم عليهم الذي يمتنعون عن تنفيذ الأحكام طواعية وذلك بالحجز علي ممتلكاتهم المنقولة أو الثابتة وبيعها بالمزاد حتى يحصل كل ذي حق علي حقه تحقيقا للعدل و الإنصاف . وهكذا فإذا صدر حكم بالتنفيذ على عاتق احد الأشخاص المعنوية سواء كان من أشخاص القانون الخاص أو العام فان الأصل هو أن يقوم بتنفيذه.

إن ما نهدف إليه هو إيصال فكرة إعمال الدولة لسيادة القانون و سلطتها بالمسارعة في تنفيذ الأحكام علي أرض الواقع. لما في ذلك من مردود إيجابي علي المجتمع كله, ويعمل علي تقدم البلاد في شتي مناحي الحياة سيما الجانب الاقتصادي من جذب للاستثمارات, فالأمل معقود علي الدولة في أن تحافظ علي كرامة القضاء وهيبته وكذا كرامة المتقاضين بتنفيذ الأحكام القضائية كما أن الأمل معقود أيضا في أن يمارس القضاء دوره بكل قوة وحزم بالتصدي لكل ما يعوق تنفيذ هذه الأحكام بأن يحكم بما أباح له القانون من تعويض جابر للضرر الذي لحق بمن صدر لمصلحته الحكم ولم يستطع تنفيذه, وأن يحميه من الذل والمهانة.

قد يعجبك ايضا
جار التحميل...