البلاسطيكة كحلة

رحلت الأكياس البلاستيكية السوداء أخيرا.
رحلت الأكياس البلاستيكية السوداء أخيرا.
بصمت غادرتنا دون أن نكلف أنفسنا إقامة حفل وداع أخير لها، وهي التي عاشرتنا عقودا طويلة وصبرت معنا على الحلوة والمرة. حتى كلمة وداع لم تسمعها منا،

ولم تجد منا سوى الجحود والاحتفاء بالأكياس الجديدة الحمراء والخضراء والصفراء التي تسر الناظرين.

نسينا فجأة أن الأكياس السوداء هي من علمت أغلبنا أسس التجارة في مدرستها البسيطة. من منا لم يبع في طفولته الأكياس السوداء للمتسوقين؟ هناك كثيرون لم يفعلوا هذا، وهناك آخرون فعلوه وأنا منهم.

خضت التجربة في طفولتي وجربت أن أبيع البلاستيك الأسود مع 3 شركاء آخرين بسوق كاسابارطا، وكانت المداخيل جيدة، إلى درجة أن مدير المشروع تبرع علينا بمثلجات باردة انتقاما من يوم عمل شاق… اللادو د20 فرنك طبعا.. لا أقل و لا أكثر.

يقولون أن الأكياس الجديدة تحافظ على البيئة أكثر، وهذا جميل. لكنهم نسوا أنها أيضا أنها تكشف ما بداخلها من غنائم اليوم.

هي في الحقيقة شفافية جميلة، وتشبه ما تفعله مجموعة من الأسر بإحدى ضواحي سويسرا، حيث يقطنون بيوتا زجاجية يرى باطنها من ظاهرها، وشعارهم هو: ليس لدينا ما نخفيه.

لكننا لا زلنا لم نصل إلى تلك المرحلة بعد، ولا أعتقد أننا سنصلها لأننا نحب السترة. والميكا الجديدة تتعبنا لأنها تكشف إما ضيق ذات اليد أو تثير في الآخرين اشتهاء لا نريده أن يكون.

قلة قليلة، من المتكبرين الذين يقطنون الأحياء الشعبية، ستسعد بالأكياس الجديدة لأنها ستتيح لهم استعراض عضلاتهم أمام جيرانهم، وإثبات أنهم يشترون اللحم يوميا، مع لافوكا والأناناس طبعا ( الآن سيصبح شراء الطماطم أيضا مفخرة ما بعدها مفخرة لأن سعرها أصبح خياليا).

على أية حال، ليس أمامنا سوى الترحيب بالأكياس الجديدة والدعاء لها بالتوفيق في مسارها المهني، شرط أن تفي بوعدها وتبقى صديقة للبيئة وأن يرفقوا معها جهازا صوتيا وقحا بعض الشيء، يقول كلما لاحظ عيونا تتلصص:

* شعاندك كاتشوف آصحبو؟

بهذا الشكل على الأقل يمكن أن نطمئن إلى أننا سنحافظ على أسرارنا الحميمة في منأى عن الفضوليين، وما أكثرهم حين تعدهم.

إعلان

لكن الحقيقة التي لا مفر منها أن البيئة تزداد تلوثا في السنوات الأخيرة. ويبدو هذا كقاعدة غريبة:

كلما ظهر منتوج جديدة لحماية الصحة أو البيئة، ازدادت الأمور تدهورا.

في طفولتنا، مثلا، كنا نلهو بالطين والرمال وماجاورهما، ونعود للمنزل بأيدي ملطخة مباشرة إلى صحن الطعام، وطبعا تقسم لوالديك بأغلظ الأيمان أنك قد غسلت يدك 10 مرات بالماء والصابون وجافيل.

وماهي النتيجة؟

جيلنا أفضل صحيا بكثير من الجيل الذي تلانا، و الجيل الذي قبلنا أفضل منا بكثير.. وهكذا.

جيل اليوم لديه صابون خاص ضد الميكروبات والبكتيريا التي لا ترى بالعين المجردة، ورغم أنه لا يلعب “المغراس” في الطين، ولا يحتك كثيرا بأماكن ملوثة، لكنه هش وسريع المرض، وصحته غالبا في تراجع.

ليست هذه دعوة للتلوث طبعا، لكن الأمر ينبغي أن يكون في منزلة بين المنزلتين.. لا وسواس نظافة مرضي، ولا إهمال للنظافة الضرورية.

فقط تذكروا شيئا هاما:

عندما تهب رياح الشرقي القوية، إرفعوا أعينكم للسماء.. ربما تجدون آخر كيس بلاستيكي أسود يلوح لكم مودعا.

اللهم بيض أيامنا جميعا برحمتك يا أرحم الراحمين.

عبد الواحد استيتو
stitou1977@yahoo.com

http://stitooo.blogspot.com

قد يعجبك ايضا
جار التحميل...