أمـــــــوات “شعبـــــية”

يقول أحد قدماء حي كاسابارطا أنه بمجرد ما حصل المغرب على الاستقلال، طرق أحد الإسبان الذي كانوا يقطنون بالحي بابه وقال له: أميجو.. أنا سأغادر غدا إلى إسبانيا، هاك مفتاح بيتي فأنا لا حاجة لي به!
يقول أحد قدماء حي كاسابارطا أنه بمجرد ما حصل المغرب على الاستقلال، طرق أحد الإسبان الذين كانوا يقطنون بالحي بابه وقال له: أميجو.. أنا سأغادر غدا إلى إسبانيا، هاك مفتاح بيتي فأنا لا حاجة لي به!

إعلان

المفاجأة تأتي من رد ذلك الطنجاوي الذي أجاب: وما حاجتي إلى منزل إضافي؟ لدي منزلي ولا أريد منزلا آخر.
بعد هذه الإجابة رمى الإسباني مفتاح البيت في سطحه ومضى إلى غير رجعة.
هذه الحكاية ليست من نسج الخيال والله.. بل يرويها أكثر من ساكن قديم لحي كاساباراطا العتيد.. طبعا حدث هذا عندما كان التعفف وغنى النفس هو الشعار قبل أن تظهر كائنات خرافية يطلق عليها الطنجاويون الآن إسم “وحوش العقار”، وتصبح سومة كراء شقة عادية ب 2500 درهم للشهر.
مناسبة هذا الحديث هو هذا الألم الذي يعتصر قلبي كلما زرت الأحياء الشعبية التي قضيت فيها معظم طفولتي كمبروكة وحومة إسبانيول، حيث ألاحظ اختلافا كثيرا بين الأمس واليوم..
لقد عشت طفولتي في حي كاسابارطا، وكنت ولازلت فخورا بهذا وأعتبر الأحياء الشعبية كنزا من كنوز مدينة طنجة التاريخية والبشرية.. وفي كل مرة أزور هذه الأحياء الآن أقف ولسان حالي ينشد مع امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل… بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وربما تماديت في النزق قليلا وغنيت مع عاصي الحلاني “… ع بوابو دقيت.. ما في حد لقيت.. ردو علي حيطانو”.
لكن شتان طبعا بين أحياء الأمس واليوم بطنجة، أحياء الأمس تستحق أن تبكي عليها لأنها كانت تزخر بالطاقات وكانت مليئة بالقيم الحضارية والأخلاقية التي كان آباؤنا يحتفظون بها كي يمرروها لنا بضربة واحدة.. لكن جيلنا للأسف لم يتعلم على ما يبدو لا من ميسي ولا من رونالدو كيف يستقبل كرة الأخلاق والقيم هذه فضاعت وضعنا معها.
في أحياء طنجة الشعبية كانت كل الأبواب تبقى مفتوحة في وجه الكل، ولا يتم إقفالها إلا في الليل، بينما في النهار يتم استعمال الستائر فقط إن وجدت.. وأحيانا تبقى مشرعة في وجه الجيران كلهم دون حتى استعمال هذه الستائر.
في سويسرا الآن هناك منازل زجاجية بالكامل يــُــرى باطنها من ظاهرها، وأصحابها يعتبرون ذلك قمة الشفافية على أساس أنه “ليس لديهم ما يخفونه”.. هل زار أحدهم كاساباراطا في الثمانينات وتعلم منا ذلك؟؟ ربما!! لا أستطيع أن أجزم طبعا.
أقول أن قيما كالتعاون والتكافل والتضامن كان يشربها المرء مع شاي الفطور والخبز والزبدة التي كانت هي زاد تلك الأيام، ولم يكن غريبا فعلا أن تستيقظ لتجد أن ابن الجيران ذا السنتين يشد أذنك أو يداعب أنفك مستكشفا!! ناهيك عن الغذاء أو العشاء المشترك بين أبناء الجيران في منزل إحدى الجارات.. اللي جات فيها.. وليس لها حق الاعتراض طبعا لأن الأيام نداولها بين الناس.. اليوم تغذين أبناءهم وغدا يتغذى أولادك لديهم… وها حنا مباص.
من نسميهم “ولاد السوق” في ذلك الزمن كانوا يختلفون عن رعاع اليوم.. فهم في الحي كأنهم خشب مسندة، وخارج الحي يقيمون الدنيا ولا يقعدونها بشتى أنواع “الصلابة”، لكن بمجرد وضع أول قدم في الحي يطأطأون الرأس ويقبلون أيدي كبار الحي ويدخلون ليناموا في ملائكية لا نظير لها!
ما يحدث اليوم في الأحياء الشعبية هو عكس ذلك تماما، فالرعاع داخل حيهم يتعاملون كالأسود وخارجه كالنعامة.. يبيتون الليل يسبون دين آبائهم وأجدادهم ويستيقظون في الثانية ظهرا طالبين من أمهاتهم العشرين درهما من أجل “الفتيـــــْوتة”، وياويلها يا سواد ليلها لو لم تكن تملكها.. الكبار الذين كانوا في حكم المقدسين آنذاك أصبح يـــــــنكل بهم اليوم.. بل ليس الكبار فقط، الآباء والأمهات أيضا! يارب سترك.
أما نظرية “الأبواب المفتوحة” فلا تصلح إطلاقا لهذا الزمن الذي بدأنا نسمع فيه أن الإبن يسرق فيه طنجرة الضغط لأمه وهي لازالت تصفر ليبيعها من أجل تحصيل ثمن “الغبرة” قبحها الله.. فما بالك بترك أبواب البيت نفسها مفتوحة!
لا تحسبن هذه التي نعيش فيها اليوم “أحياء”.. بل “أموات” شعبية.. ولكن لا تشعرون!

عبد الواحد استيتو
stitou1977@yahoo.com

Facebook | Abdelouahid Stitou

قد يعجبك ايضا
جار التحميل...