تمكنت عائشة بلحسين، من بلوغ رئاسة الجمعية الوطنية للعدول في مدينة أكادير جنوبي المغرب، وهو حدث استثنائي، خاصة أن مهنة العدول (المأذون) كانت إلى زمن قريب حكرا على الذكور.
و”العدول” في المغرب، هو المأذون الشرعي الذي يوثق الزواج والطلاق والنسب والشهادة. وهي مهنة افتُرض بها شرط الذكورة، إلى أن أسقطه قرار وزاري سنة 2018.
ويعد انتخاب عائشة بلحسين الأول من نوعه في هياكل هذا الجهاز، على الصعيد الوطني.
وقالت بلحسين في تصريح لموقع “سكاي نيوز عربية”: “عندما تم انتخابي على رأس فرع الجمعية، أحسست بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقي، خاصة أنني لم أترشح لهذا المنصب، بل تم اختياري من طرف زميلاتي وزملائي بالإجماع”.
بلحسين البالغة من العمر 41 سنة، أرملة وأم لثلاثة أطفال، وقد انقطعت عن الدراسة في ربيعها الثامن عشر، مباشرة بعد زواجها.
لكن حبها للقانون جعلها تعود إلى مقاعد جامعة الحقوق بأكادير بعد 15 سنة من الانقطاع، لتحصل على إجازة في القانون الخاص سنة 2016.
وقد عملت كمنسقة لمركز الاستماع بجمعية صوت النساء المغربيات، إلى أن تم الإعلان عن مباراة ولوج خطة العدالة سنة 2018، والتي فُتحت لأول مرة في تاريخ المغرب في وجه النساء.
تحكي بلحسين كيف أنها اجتازت المباراة من ضمن 18000 مترشحا للاختبار الكتابي، ثم 3000 مترشحا للاختبار الشفهي بالمعهد العالي للقضاء بالرباط، قائلة: “كنت من بين 299 امرأة حظين بفرصة دخول هذه المباراة التي خصص لها 800 منصب”.
وبعد تعيينها ضمن الفوج الأول للسيدات، تلقت بلحسين تدريبا بمركز أكادير، التابع للمعهد العالي للقضاء، لمدة 6 أشهر، ثم قضت فترة تدريب بالمحكمة الابتدائية بأكادير، بقسم قضاء الأسرة لمدة شهرين، وبعدها مدة 4 أشهر بالمكتب العدلي، حيث تم التدريب على طريقة إنجاز الوثيقة العدلية.
وبعد كل هذه المراحل، اجتازت المرأة الامتحان المهني، ثم تم تعيينها بدائرة محكمة الاستئناف بأكادير، لتؤدي القسم وتشرع في أداء مهامها.
موافقة ملكية بناء على “أحكام الشرع”
ووافق الملك محمد السادس على فتح مهنة “العدل” أمام النساء، وسمح للمرأة أن تدخل مجال توثيق عقود الزيجات والطلاق والبيع، لأول مرة.
وكان الملك قد كلف وزير العدل، في وقت سابق، بدراسة المسألة، كما جرت إحالة القضية على المجلس العلمي الأعلى، وهو أعلى هيئة دينية في البلاد.
وأوضح المتحدث باسم القصر الملكي في المغرب، عبد الحق المريني، أن القرار جرى اتخاذه “بناء على أحكام الشرع المتعلقة بالشهادة”، لافتا إلى أن المرأة المغربية “أظهرت كفاءة وقدرة على تولي المناصب”.
وخلال حفل التنصيب في صيف 2018، خاطب وزير العدل الأسبق محمد أوجار الناجحات في هذا الفوج، قائلا: “لقد حظيتن بشرف تكريم الملك محمد السادس للمرأة المغربية، وفزتن بتقديره لما تضطلعن به من أدوار ترجمها من خلال ثقته فيكن وفي كفاءتكن ومقدرتكن على تحمل كل صعب، وتجاوزِ كل عقبة”.
وتابع: “إنها الصورة التي نجحت المرأة المغربية دوما في رسمها، فأُثِر عنها التفاني في العمل، والإخلاص في الأداء، والنزاهة في التدبير، والتألق في التسيير”.
وأضاف المسؤول الحكومي الأسبق، أن “هذا الإنجاز، ليزيد من جذوة الأمل في نفوسنا من أجل أن نرى المرأةَ العدل منخرطة في غمارِ المهنة، قائمة بأعبائها، متحملة لأمانة توثيق العقود وحفظ الحقوق وتحرير الالتزامات”.
تطور الإطار القانوني
واعتبرت الأستاذة الجامعية المختصة بقضايا النساء، لطيفة البوحسيني، أن ولوج المرأة لممارسة مهنة العدول “له أكثر من دلالة”.
وقالت في حديث لموقع “سكاي نيوز عربية”: “لا ننسى أن المغرب بعد حصوله على الاستقلال، كانت بعض المهن غير متاحة للمرأة في مجال القضاء على سبيل المثال. وتأخر ولوج المرأة لهذه المهن بسبب تمازج كل ما هو ديني ببعض العقليات التي لم تكن تستصيغ خروج النساء للفضاء العام، باعتبار النساء غير مؤهلات لولوج مهن من هذا القبيل، حسب هذه العقليات المتحجر”.
وإذا كان النص القانوني المنظم لخطة العدالة، لم يمنع على النساء بشكل صريح من ممارسة هذه المهنة، فإن اللغة التي كتب بها هذا القانون جاءت بصيغة المذكر، وجعلت التأويل ينحو هو الآخر منحى ذكوريا.
وقد جاء في المادة 4 المتعلقة بشروط ولوج المهنة ما يلي: “أن يكون مسلما مغربيا مع مراعاة قيود الأهلية المشار إليها في قانون الجنسية المغربية”.
ولربما “ذكورية اللغة” هي التي أدت إلى منع مجموعة من النساء ممن قبلت ملفات ترشيحهن في عدد من المناسبات، غير أنهن منعن من دخول قاعة الامتحانات، بداعي عدم وضوح النص القانوني، تضيف المتحدثة.
واستطردت بالقول إن بعض المهن “لا يمنعها القانون على النساء، لكن مع ذلك يتم رفض مزاولتها من طرفهن، لا لشيء سوى لتعارض هذه الفكرة مع بعض العقليات والتقاليد والعادات”.
وخلصت المتحدثة إلى أهمية اتخاذ المغرب لهذا القرار، حتى يسمح للنساء بممارسة مهنة التوثيق العدلي. مضيفة: “لولا تدخل القانون لتصحيح هذه الوضعية، لرُفضت نساء أخريات، ولم يكن ليسمح لهن بولوج هذه المهنة، رغم عدم وجود مانع من ذلك”.
وتؤكد من جانبها العدلة بلحسين، أن “سماح الملك محمد السادس، للمرأة المغربية بممارسة مهنة التوثيق العدلي، التي تعتبر آخر مهنة قانونية كانت حكرا على الذكور، يعد اعترافا بكفاءتها وقدرتها على ممارسة هذه المهنة جنبا إلى جنب مع الرجل، خاصة وأن الأعراف هي التي كرست هذا الميز وليس قانون المهنة 16.03.”
ونوهت بلحسين في حديثها لموقع “سكاي نيوز عربية”، أنها “تطمح للمساهمة في الرقي بمهنة التوثيق العدلي وتحريرها من كل القيود التي تعرقلها، وذلك بالانخراط في مسلسل الرقمنة”، داعية إلى إشراك المرأة في انتخابات الهيئة الوطنية للعدول.