قاصرون بطنجة: أوضاع مزرية وأحلام وردية
حياة قوامها الجوع والبرد والضياع ومخاطر حياة الليل التي لاتنتهي. بيد أن إغراءات الهجرة نحو أوربا تجعلهم مصرين على تحمل هذه المعاناة مرددين أن الموت لا يخيفهم” الموت واحدة هي الي كاينة علاش غادي نخاف”.
1200مهاجر قاصر وصلوا التراب الاسباني معظمهم مغاربة.
قاصرون قدموا من مدن مغربية مختلفة. في غفلة من أسرهم يعيشون تحت وطأة حياة قوامها الجوع والبرد والضياع ومخاطر حياة الليل التي لاتنتهي. بيد أن إغراءات الهجرة نحو أوربا تجعلهم مصرين على تحمل هذه المعاناة مرددين أن الموت لا يخيفهم” الموت واحدة هي الي كاينة علاش غادي نخاف”.
يقف يوسف بملابس متسخة , ملامحه تشي بالمعاناة والتشرد متأملا باخرة تنطلق ببطء من ميناء طنجة في اتجاه الجزيرة الخضراء ثم يتمتم بلغة ممزوجة بالتمني ” اد وصلت شي نهارلاسبانيا غادي نولي بخير مانبقاش فهاد الحالة هنا ماعندي مايدار ” هذا الطفل القادم من الدار البيضاء لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد. عقد العزم كالعشرات من القاصرين الذين حلوا بطنجة في انتظار اللحظة المناسبة للعبور نحو مايعتبرونه الفردوس المفقود.
قصص متشابهة وواقع مرير.
تنتصب فنادق الخمس نجوم وعلب ليلية بمحج محمد السادس الزائر لهذا الشارع المطل على الشاطئ بقدر ما يستأثر اهتمامه مظاهر حياة الترف والبذخ لا يغفل جحافل القاصرين الدين يتمركزون بهذا الشارع القريب من الميناء في أحوال جد مزرية.
بدأت قصة المعاناة التي يعيشوها يوسف منذ مايزيد العام عندما امتطى الحافلة القادمة من الدار البيضاء في اتجاه طنجة دون علم أسرته رغبة في تحقيق حلم الهجرة نحو اسبانيا” انقطعت عن الدراسة في الصف الرابع الابتدائي وبعد ذلك دخلت عالم العمل” يقول يوسف شارحا مساره ثم يضيف بلغة غاضبة ” لقد كنت أتعرض لاعتداءات يومية من طرف مشغلي بمحل النجارة” غير ان معانته سرعان ماتنتهي بمحل النجارة لتبدأ فصول أخرى من المشاكل بين ألاب والام بالمنزل يضيف يوسف وعلامات الحزن ترتسم على محياه.
لم يستطع يوسف تحمل المزيد من المعاناة ليقرر الرحيل بعيدا عن المدينة في اتجاه الشمال بعد أن سمع الكثير عن إمكانية الهجرة نحو أوربا وتحقيق أحلامه “لا لست نادما اليوم أو بعد غد سأرحل من هنا لدي أصدقاء استطاعوا الهجرة” يقول يوسف مؤكدا .
تمر شاحنة للنقل الدولي لتقف في إحدى علامات المرور فتسرع مجموعة من الأطفال بخطوات متسارعة نحوها في محاولة لإيجاد مكان الاختباء, ثم يعودون وخيبة الأمل تعلو وجوههم في انتظار شاحنة أخرى, بعد ما تبين بحكم التجربة أنها ليست من النوع ” المطلوب الجيد للهجرة” كما يوضح يوسف وعيناه تراقب حركة المرور بحذر وترقب شديدين, فالجميع يبحث ما يطلقوا عليها بشاحنات “الفريكو” لأنها لا تخضع لتفتيش دقيق حسب مايؤكد هذا الطفل .
تفاصيل حياة التشرد التي يقضيها هؤلاء الأطفال تنضح بفصول قانون الغاب فالقوي يأكل الضعيف وأغلب القاصرين يجتمعون في مجموعات تضم أطفال المدينة الواحدة لمواجهة جميع الصعاب ومن لم يجمتع يندثر فضمان البقاء يتطلب روح الانتماء إلى مجموعة تقيه شر الاعتداءات التي قد يتعرض لها في أي لحظة .
لم يخف يوسف خيبة أمله في عدم تمكنه من العبور ويعتبر هذا الموسم كارثيا لان الاجراءات الأمنية بالميناء عرفت تشديدا غير مسبوق وأصبحوا أكثر عرضة للمطاردة بل ان دخول الميناء أصبح مجازفة غير محسوبة العواقب .
بلغ عدد المحاولات التي قام بها مايفوق الخمسة, في إحداها, غادر ميناء طنجة ليضبط بميناء الجزيرة الخضراء وتتم إعادته رفقة أطفال آخرين.
عثمان طفل 14 سنة قدم من قلعة السراغنة منذ مايزيد العامين انقطع عن الدراسة وترك المنزل في اتجاه البحث عن رحلة تضمن له تحقيق أحلامه قصة هذا الطفل لا تختلف كثيرا عن يوسف وان اختلفت في بعض التفاصيل فأن لدغة الألم والمعاناة تبقى واحدة باختلاف الشخوص. ملامح عثمان عناوين بارزة للحرمان والمعاناة وجه شاحب يختفي وراء قبعة ملابس مهترئة مؤشرات تختزل حياة التشرد التي يذوق مرارتها بصمت في انتظار رحلة طال انتظارها.
معاناة وتشرد وأمل
عند حدود الساعة الرابعة صباحا يكون عثمان قد استيقظ رفقة باقي رفاقه لبداية رحلة البحث عن هفوة لعبور ميناء طنجة بسلام ” في الصباح الباكر تعرف حركة مرور الشاحنات رقما قياسيا لهذا يجب أن نكون في المكان والزمان المحدد” يتحدث عثمان شارحا ويضيف انه أحيانا يقظون الليل في ترقب اللحظة المناسبة.
يتصل عثمان هاتفيا بشكل منتظم بالمنزل, عن سبب رغبته في الهجرة ” بغيت ندبر على راسي وعلى والدي باغي نعيش مزيان ” يتحدث عثمان معلنا عن آماله, أكثر من ثمان عدد المحاولات التي قام بها للعبور نجحت احداها شهر مارس المنصرم, واستطاع الوصول الى مدينة اشبيلية ليتم اعتقاله من طرف الشرطة الاسبانية وتتم اعادته “لقد مررنا بمحكمة وعرضنا أمام قاضي اسباني رفقة آخرين فسألنا عن أسمائنا وأعمارنا وعن سبب هجرتنا وكيفية تمكننا من العبور” يتذكر عثمان مرحلة الترحيل من اسبانيا.
ويضيف بلغة ممزوجة بالحسرة “الرحلة كانت متعبة وشاقة للغاية ولم يتملكني خوف فكنت أشعر بفرحة عندما وطأت التراب الاسباني ” وقبل ذلك ابتسم الحظ لعثمان بعد أن تمكن من عبور ميناء طنجة ليتم ضبطه بميناء الجزيرة الخضراء.
حسب دراسة قامت منظمة الأمم المتحدة للطفولة UNICEF بإنجازها أواخر عام 2005 تناولت هجرة القاصرين غير المرفوقين شملت300 طفل بإسبانيا والمغرب الدراسة خلصت إلى إن أعمارهم تتراوح بين 13و 16 سنة كما لفتت الدراسة إلى أن معظمهم يعانون من أمراض نتيجة التشرد كما نشير الى انقطاعهم عن الدراسة عند المستوى الابتدائي ليلجوا العمل مبكرا في قطاعات مختلفة قبل أن يلوذوا بالفرار في البحث عن وضع أفضل .” المعلم كان كيكولنا اراه القراية مابقات كتوكل سيروا تعلمو شي صنعة” يتحدث عثمان عن سنوات الدراسة ثم يضيف بحماسة ” لقد كنت من المتفوقين لكن ظروف والداي الصعبة عجلت بمغادرتي للمدرسة باتجاه العمل ” الانقطاع عن الدراسة يشجع الاف الشباب المغربي في التفكير في الهجرة.
محاولات واعتقال وترحيل.
الهاجس الذي يؤرق هؤلاء الأطفال ليست لوعة الفراق عن الأهل ولا حتى قسوة التشرد بقدر مايخيفهم الوقوع بيدي الشرطة المغربية حيث تبدأ فصول من المعاناة بدئا من الاحتجاز بمركز الدائرة الأولى للأمن التي كانت أواخر التسعينات محطة للقطار, وانتهاء بالترحيل نحو المدن الأصلية “الاعتقال يرافقه صفع وسب ويتم وضعنا في أحد الغرف لمدة غير محددة في انتظار اكتمال عدد محدد من المهاجرين” يتذكر عثمان مرارة الاعتقال ويضيف أنه بعد تجميع عدد يفوق في الغالب سبعين شخصا يتم استقدام حافلة وهنا “تكمن المصيبة” كما يقول فلا أحد يرغب في العودة إلى مدينته ويستطيع البعض المغادرة في حال أدائهم مبلغ خمسين درهما ويلجأ آخرون إلى التحايل ” بعدما تقلع الحافلة وتصل أقرب مدينة لطنجة ينزل البعض ليعودوا مجددا في اليوم نفسه” يتحدث عثمان شارحا.
تعرض عثمان للاعتقال مرات وبعد كل ترحيل يعود مجددا بعزيمة ورغبة اقوى من السابق، هكذا تنجلي لعبة القط والفأر التي يمارسوها.
أزيد من 1200 مهاجر قاصر وصلوا إلى التراب الاسباني بينهم أفارقة وقاصرون مغاربيون إحصائيات للصليب الأحمر الاسباني برسم 2007 هذا الرقم سجل زيادة بالمقارنة مع السنوات المنصرمة خاصة مع ازدياد أعداد المهاجرين الأفارقة.
كباقي الأطفال القاصرين فأن عثمان يعتمد في تدبير العيش على طلب المعونة من المارة”أجد بعض الحرج لكنني ليس أمامي حل هل أموت جوعا ” يتحدث عثمان مستفهما عند حدود الثانية عثمان ليلا ينصرف مع باقي المجموعة في اتجاه إحدى البقع الأرضية للخلود للنوم بعد يوم حافل في انتظار يوم جديد ومحاولات جديدة.
عزيز طفل 13 سنة من مدينة سلا قدم منذ مايزيد 5 أشهر تأقلم بسرعة مع أجواء التسكع رغم حداثة تجربته””دابا خسني نمشي نحرك ما كاين مايدارعايشين مقودة علينا مكرفصين ” يبررعزيز رغبته في الهجرة قصة هذا الطفل لا تختلف مع باقي القاصرين الحالمين بالهجرة رغم حداثة تجربته فالفقر والانكساروالمعاناة قدر اختاره منذ قدومه” كندبر معند بنادم كنعس هنا ف ابلايا فيما و كان كنطيح” لكن قساوة التشرد في حالات تجعله يهرول نحو أهله ليعود من جديد .
ليس من كانوا في أسوء حال هم وحدهم يترددون على الميناء بغية الهجرة رشيد 16 سنة طفل يقطن بطنجة مايزال يتابع دراسته غير أن الرغبة في اللحاق بأخيه المهاجر بأسبانيا تجعله يداعب المغامرة أهله لا يعلمون بمحاولاته التي فاقت أربع ” الدراسة لا تنفع لدي إخوة حاصلون على شهادات عاطلون عن العمل “” يقول رشيد مبررا رغبته في الهجرة لكن مايزيد إصراره رغم مايشعر به من خوف وتردد هو رؤيته لمهاجرين يعودون وقد بدت اثار النعمة عليهم-“أ خاوا تنا كتشوف عاد مشاو بارح ورجعو بطومبيلات اخر موديل دابا عايشين مدخمين” يتحدث رشيد بلكنة طنجاوية ثم يضيف بلغة استفهامية” شني تبقى تعمل هنايا” بعد أن يستنفذ المحاولات يعود إلى المنزل في انتظار يوم آخر رفقة أصدقاء تملكهم نفس الرغبة .
تتجه باخرة بهدوء في اتجاه الجزيرة الخضراء محركة مياه المتوسط لتحرك معها أحلاما راكدة لهؤلاء الأطفال الذين يجتمعون يبصرون المشهد بترقب ورغبة دفينة في عبور المضيق وجميعهم يلح على أن الحظ سيبتسم لامحالة “كثيرون كان هنا وأصبحوا الآن في الجنة الأوربية” يقول يوسف مؤكدا ” جوج ديال مرات كيردونا وغادي نبقى حتى يجيب الله تيسير” يقول عثمان متمنيا.
يوسف عثمان عزيز رشيد واخرون بالمئات. أطفال في عز زهرة الحياة لكنهم رجال قبل الأوان خرجوا للشارع يبحثون عن رحلة تقيهم ضراوة الواقع حاملين معهم أحلاما وآمالا عريضة لم يجدوا لها صدى بأرض الوطن, أحلام لا تتجاوز الأمان وقليل من الكرامة المفقودة بوطنهم كما يردد هؤلاء الأطفال. يصرون على تحمل المزيد من المعاناة وحياة التشرد في سبيل الوصول الى الفردوس المفقود لكن أحلامهم البريئة سرعان ماتنكسر على صخرة الإجراءات الأمنية بالميناء ليكرر هؤلاء محاولاتهم دون عناء أوتردد ..
نوفل الخمليشي
الجريدة الأولى