هطل المطر بعنف وغزارة، مصحوبا بعاصفة رعدية أفزعت الساكنة. انتفض واد القرية واستحال إلى ثور هائج، فتسبب في سيول جارفة قوية أتت على كل ما يعترضها من أشجار، عربات، وماشية، ليخلف ضحايا وأضرارا جسيمة في الممتلكات والأرواح.
هاجمت السيول البيوت، وغمرتها بمياه عارمة. فجأة، طفت جثة امرأة على سطح الماء، هلكت بعدما انهار بيتها الطيني. نجا الزوج المسكين مع ابنتيه بأعجوبة. أصابه حزن عميق بعد فقدان زوجته.
بعد ردح من الزمن، سينزح القروي الناجي من بلدته النائية، ويستقر به الحال في حي عشوائي على هامش المدينة. تحت ضغط الفاقة والحاجة، سيختار لنفسه مزاولة مهنة ماسح أحذية. من قعر حي بائس يخرج العياشي كل صباح، حي مزر يدعى “دوار قدور” حلت به كل موبقات ومصائب العالم: مخدرات، دعارة، شعوذة، وكل ألوان الإجرام.
أفاق باكرا كعادته ليشيع ابنتيه إلى المدرسة، مسح الغشاوة عن عينيه، وخرج من بيت صفيحي اتخذه مسكنا له، فيما حملت هبة ونجاة محفظتين مهترئتين، وهما تتطلعان إلى أبيهما المكدود بعيون تملؤها دموع القهر. كان يحمل صندوقا خشبيا مجوفا، يحوي بداخله “شيتة”، دهان ملمع، وخرقة بالية. يمشي في الطريق بوجه طلق وقد ارتسمت ابتسامة عريضة على محياه، لا يتسلل اليأس إلى قلبه أبدا.
على كتفه يبدو الصندوق وقد علقت عليه صورتين، إحداهما لأم كلثوم بنظارات سوداء واسعة وكأنها تخفي حزنا كبيرا، وأخرى لمارلين مونرو تبدو مرحة بتنورة قصيرة ترفرف في مهب الريح مثل طفلة رشيقة فازت بلعبة الأراجوز. من الصورة تطل مونرو على الفتاتين المعوزتين، محدقة في ملامحهما بعينين فرحتين يفيض منهما الأمل، وكأنها تواسيهما بصوت رخيم: لا بد للحياة أن تتغير نحو الأفضل!
غادر الأب الكادح كوخه المتهالك مع ابنتيه في الصباح الباكر، وقد غشيته البساطة ودعابة الروح. ما لبثوا أن افترقوا عند مدخل المدرسة ليقوم العياشي بطبع قبلات أبوية على وجنتي فلذتي كبده. بعدئذ راح يسعى في طلب الرزق، حيث انطلق يجوب شوارع المدينة شارعا شارعا، ويلج المقاهي مقهى مقهى بحثا عن لقمة عيش مرة. لا هم لديه سوى كسب بضع الدريهمات، ومكافحة ضنك العيش، مكابدا صعاب حياة قاسية.
مضى في الشارع حاملا صندوقه، متأبطا كرسيا خشبيا صغيرا حتى وصل ساحة التحرير. اجتاز الساحة وسط زخات مطر شديد، ليحتمي بمقهى “قبوع”.
صوت المذياع يبعثر ركام الصمت بأغنية حميد الزاهر “عندي ميعاد”. فضاء المقهى ملوث بدخان السجائر والغليون. إذا مددت يدك في الفراغ لا تكاد تراها.
من زاوية قاصية، رمقه زبون بدين كان يدس وجهه بين صفحات جريدة الميثاق، يدخن بشراهة ويكاد يبطش به السعال بين فينة وأخرى، فنادى عليه بإشارة موغلة في الدونية والاحتقار. طلب منه تلميع حذائه. تردد العياشي أولا محاولا تفاديه إلا أنه لم يفلح، علق بذهنه أن الموظف شخص نافذ بالمدينة، قد يضيق عليه في رزقه، ويسبب له متاعب هو في غنى عنها.
جلس ماسح الأحذية على كرسي صغير، وانهمك في تلميع حذاء زبونه المترهل، كان ينظر اليه من تحت بحقد دفين، فيتخيل ذقنه المفرط في السمنة كشرائح لحم ملتصقة برقبة مثقلة بالدهون، أما صلعة رأسه فتبدو كهضبة صحراء تزحف نحو الخلف، فيما الزبون المتعحرف منشغل يتصفح جريدته بكرش مندلق، وعينان تفيضان شرا، يشفط دخان سجائره الشقراء واحدة تلو أخرى بتلذذ فائق.
في لحظة ما، أخطأ العياشي فردة الحذاء فأصاب جارب زبونه بلوثة طلاء أسود، فما كان من الأخير إلا أن انتفض وهب واقفا مزمجرا في وجه ماسح الأحذية، وأخذ يكيل له الشتائم دون توقف.
رد عليه العياشي محتجا أنه لن يقبل الهوان، وانحطاط كرامته كإنسان.
رده هذا، أثار حفيظة الموظف الأصلع، الشيء الذي أجج في نفسه موجة غضب شديد. فبادر إلى صفعه على وجهه، مهددا إياه باقتياده الى أقرب مخفر شرطة لتحرير محضر ضده.
بلع الرجل الفقير الإهانة، وقد امتلأ قلبه غيظا. بلغ الغضب مداه. شعر بالحقرة والغبن.
في خطوة جريئة، انتشل نفسه من عتمة الخوف، وصاح قائلا بحنق شديد:
– من تكون حتى تخاطبني هكذا؟
– يا لها من حماقة استغلال النفوذ، وشطط في استعمال السلطة!
– هذا سلوك مقرف!
تمادى الرجل المغرور في غيه، ووجه صفعة موجعة أخرى للعياشي.
لم يتمالك الأخير أعصابه هذه المرة، ولم يتردد في رد الصاع صاعين، مقدما على مهاجمة زبونه الصلف بكل ما أوتي من قوة. اجتاحه هيجان شديد، فرماه بكرسي خشبي على رأسه حتى أسقطه مغشيا عليه.
تدخل النادل وبعض الرواد لمؤازرة الرجل النافذ، ربما رهبة أو تزلفا كما يفعل الجبناء. تمكنوا من الرجل الفقير ولووا ذراعيه، أسقطوه أرضا، ثم انهالوا عليه بضرب مبرح، ركلوه ورفسوه بأرجلهم إلى أن كادوا يجهزون عليه.
وما هي سوى دقائق معدودة، حتى حضرت سيارتا الشرطة والإسعاف في نفس الآن. تصاعد الصخب والهرج، تجمع جمع غفير من الناس لاستجلاء الأمر.
وصلت هبة ونجاة المقهى، واندستا وسط الجموع في حالة هلع واندهاش. ثمة من كان يردد كلمة الحولقة متعاطفا مع العياشي، وآخر يشمت في الموظف السمين الطريح على الأرض. في حين ظلت الفتاتان تجهشان بالبكاء، وأعينهما مصوبة نحو أصبعي والدهما رافعا شارة النصر، وهو محمول على ناقلة الإسعاف..