عائشة حربال.. مقاولة ذاتية بين تحدي الإعاقة ورهان التمكين الاقتصادي في زمن كورونا

بقلم: حسنى أفاينو - و.م.ع

من قلب محلها الصغير للطرز والخياطة، وبوجه صبوح باسم تتحدث عائشة حربال عن إعاقتها وعن مشروعها الفتي، وكلها أمل في أن يكون مطيتها نحو التمكين الاقتصادي، وتحقيق إشعاع تنموي أوسع .

ولدت عائشة سليمة معافاة، بدوار زويريين بضواحي وزان وسط أسرة ممتدة بسيطة، أكملت الرضيعة شهرها السادس، ولم تمض إلا أيام حتى انفطر قلب الأم لصراخها فجأة، لتهرول إليها، لكنها لم تجد سببا ظاهرا لهذه الصرخة، وما هي إلا ساعات حتى ارتفعت درجة حرارتها ، وأعلن القدر بداية خط زمني جديد في عمر عائشة، أدخل الأم المكلومة في دوامة البحث عن علاج لرضيعتها، بين المستوصف الطبي ودروب ” الفقها والعرافات “، طلبا لعلاج ما أفسدته يد بصمت.

كبرت عائشة وكبرت علتها معها، إذ كانت تسحب رجلها اليمنى المرتخية سحبا ، ولم يكن بمقدورها المشي إلا بالاستناد إلى أحد أفراد أسرتها. شكلت إعاقة الطفلة غصة في قلب الأم ، ما فتئت تزداد يوما بعد يوم كلما رأت أقرانها يلعبون ويجرون هنا وهناك حتى عاد القدر مرة أخرى، لتُنقل الأم إلى المستشفى بالرباط بسبب وعكة صحية طارئة ألمت بها استدعت رقودها به لفترة، فكانت محنة الأم ، منحة لعائشة وطوق نجاة لها .

قررت الأسرة الاستقرار بمدينة سلا، وانطلقت رحلة علاج الطفلة ذات الأعوام الخمسة مع أخصائيين في العظام والأعصاب، ما شكل انفراجا وسلوى للأم رغم قساوة المعاناة .. لقد شعرت حينها أنها تسلك الطريق الصحيح..

عشر عمليات جراحية لتقويم الرجل اليمنى، أجريت لعائشة منذ ذلك الحين إلى أن بلغت الخامسة عشر ربيعا، وحال ترددها بكثرة على المستشفى، وإجراءات المتابعة الطبية وحصص الترويض دون ولوجها المدرسة، لكن حس الوعي المبكر لديها بأهمية القراءة والكتابة وشغفها بذلك دفعها للالتحاق بدروس محو الأمية، فنجحت بعصاميتها في تحسين مستواها التعليمي .

حولت عائشة البيت الذي لزمته بسبب ظروفها الصحية إلى ورشة لتعلم الصنعة، كسرت من خلالها الملل والجمود الحركي المفروض عليها، فتعلمت من صديقة لها كانت تتردد على نادي للطرز والخياطة فنون هذه الصنعة التي أتقنتها عائشة بسرعة بديهتها ورغبتها الجارفة في التعلم، فأصبح لديها زبائن أوفياء وزاد الإقبال على ما تبدعه أناملها وذوقها الرفيع المشهود له .

“مع تحسن قدرتي على الحركة والتنقل” تقول عائشة حربال في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، ” التحقت بالمركز الوطني محمد السادس للمعاقين واستفدت من خدماته”، كما مارست أنشطة رياضية في إطار “جمعية الأشخاص المعاقين” بتمارة، شملت الفروسية ، والسباحة ، وألعاب القوى ، خاصة رمي الجلة والرمح.

” في البداية كان دافعي لممارسة الرياضة كسب اللياقة البدنية ، لكن بعد تألقي الرياضي، بدأ الاختيار يقع علي للمشاركة ضمن الأندية في التظاهرات الرياضية المنظمة بعدة مدن”، تضيف حربال، حيث شاركت في المنافسات المحلية بملعب مولاي رشيد، وتأهلت للمشاركة في مدن الخميسات (رمي الرمح) ،ثم مكناس ومراكش ( بمشاركة دول عدة كتونس ومصر وليبيا)، ثم تأهلت للمشاركة في أكادير حيث نظم دوري كبير بمشاركة عدة دول، لكنها ، للأسف، لم تشارك في فعالياته بالرغم من مؤهلاتها للانضمام للمنتخب الوطني وحظوظها الكبيرة في الفوز.

لم تتمكن عائشة من مواصلة تألقها الرياضي لأسباب اجتماعية مرتبطة بخوف الوالد والإخوة عليها من السفر والمبيت خارج البيت، إنها صخرة كأداء أتت على الطموح الرياضي لفتاة طموحة في مقتبل العمر، حيث تقول ” كنت منشطرة بين طموحي الكبير وقيود المجتمع، عشت تجاذبات داخل الأسرة لم تخْلُ من توتر، وجدت نفسي أمام أمرين أحلاهما مر، فرجح لدي أن أغير وجهة طموحي بما يحقق ذاتي ويحفظ تماسك أسرتي وسلمها الداخلي، فاكتفيت بممارسة أنشطتي الرياضية دون المشاركة في التظاهرات”.

لم تُلْق عائشة حربال سلاح العزيمة، بل عمدت إلى تطوير مهارتها في الطرز والخياطة، لتكسب من خلالهما دخلا يكفيها معرة السؤال ، شيئا فشيئا بدأ لفيف الزبائن يقصد بيتها طلبا لخدماتها وثقة بجودة صنعتها ، فشغلت معها فتاتين ثم أربع ، ونظمت عرضا للأزياء، ومضت حينا على هذا الحال حتى صدع نداء من داخلها يدفعها للظهور للشمس والتحليق بعيدا إلى آفاق أوسع سعيا لإنصاف ذاتها، وإبراز قدراتها.

تقول عائشة في هذا الصدد “كانت تحذوني الرغبة دائما في الانطلاق إلى آفاق أوسع وفتح محل للطرز والخياطة وتعليم هذه الصنعة، لكني كنت أجد نفسي مكبلة بقلة ذات اليد ، فنحن خمسة إخوة وأخوات، وأمي ربة بيت، ووالدي يمتهن بيع الأشياء المستعملة ” البال” في سوق بسلا، وقد بلغ من الكبر عتيا، ولم تعد صحته تسعفه للجولان بعربته عبر الأزقة والدروب لاقتناء الأشياء المستعملة من الساكنة وإعادة بيعها”.

أخذت حربال على عاتقها إعالة والديها والعناية بهما ، وكان ذلك شرطها الوحيد الذي اشترطته على زوجها الذي يشتغل عامل نظافة، إذ أكدت والدتها ذلك، في بوح لوكالة المغرب العربي للأنباء والعبرات تخنق كلماتها :”بنتي الله يرضي عليها، خدمات على خوتها وقراتهم ، واليوم خدامة عليها وعلى والديها ، فرشت ليها الرضا وغطيتها بالرضا” وأثنت على فضلها على العديد من الفتيات والنساء اللواتي علمتهن الصنعة، وتمكن بدورهن من إعالة أسرهن بما تجود به أناملهن .

فكرة إنجاز مشروع كانت حلم عائشة حربال وديدنها ، حتى سمعت بمبادرة مؤسسة التعاون الوطني لتمويل حاملي المشاريع من الأشخاص في وضعية إعاقة، فسارعت إلى مقر المؤسسة عام 2015 وقدمت الوثائق اللازمة ومشروعها مرفوقا بعروض أسعار تتناسب مع الدعم/الرأسمال المعروض والمقدر بـ 60 ألف درهم .

حظي مشروعها بالقبول، وحصلت على الشطر الأول من الدعم المقدر ب 15 ألف درهم ، فاكترت محلا وأصلحته، وجهزته بما يلزم من آلات للطرز والخياطة وغيرها وفق الشروط المطلوبة، وشغلت حوالي 10 نساء، وقررت إلى جانب تلبية طلبيات الزبائن؛ سواء الشخصية أو الموجهة للمعارض ، تعليم فتيات ونساء الحي حتى بلغ عددهن 26 متعلمة .

تلقت حربال الشطر الثاني من الدعم بقيمة 15 ألف درهم عام 2018 ، لكنها فوجئت بأن هذا الشطر سيكون الثاني والأخير وأن عليها تدبير الأمر بنصف الدعم/الرأسمال الموعود ، وفي متم السنة نفسها ، واجه مشروعها ارتباكا في الموازنة بين المداخيل والنفقات، ولم تعد قادرة على أداء سومة الكراء ، وأجرة النساء اللواتي يشتغلن معها، “وانتابني قلق وخوف من فشل حلم طالما انتظرته “تقول الوزانية .

لكنها لم تجد بدا من استنهاض همتها والتفكير في مخرج عملي، فقررت المقاولة الفتية إعادة ترتيب أوراقها من جديد وفق الإمكانات الواقعية المتاحة، واقترضت من مقربين لها لاقتناء المواد ومستلزمات الطرز والخياطة من أجل ضمان الاستمرار في العمل، واستبدلت محلها الكبير بآخر صغير كخطوة مكنتها من خفض تكلفة سومة الكراء إلى النصف، كما اضطرت لتسريح الفتيات اللواتي كن يتعلمن بالمحل لضيق المساحة، تدابير اتخذتها حربال جعلتها تتنفس الصعداء لتفادي كابوس الفشل.

ما فتئت عائشة تنتهي من هذه الترتيبات والتدابير الاستعجالية المترتبة عن عدم استكمال الدعم الإجمالي الذي بنت عليه مشروعها ، حتى حلت جائحة فيروس كورونا المستجد غير مرحب بها، لتقلب الأمور رأسا على عقب، وتأتي على كل شيء في العالم، بما في ذلك الاقتصادات الكبرى والشركات العملاقة، فكيف ب”مشروع مجهري” تحمله سيدة في وضعية إعاقة.

أُعلنت حالة الطوارئ، وفُرض الحجر الصحي العام بسبب هذه الظرفية الصحية الاستثنائية ، فأغلقت حربال محلها الصغير، وعادت إلى والديها المسنين وزوجها المريض بخفي حنين.

تقول حربال بعينين سوداوين تطلان من فوق كمامتها البيضاء ” توقفت عن العمل وسرحت النساء اللواتي كن يعملن معي، ولزمت البيت كباقي المواطنين ، ولم يكن لدي أي ادخار مسبق أعود إليه في مثل هذه الشدة، أو مصدر دخل آخر أدبر به متطلبات العيش اليومي وأواجه به هذه الأزمة المفاجئة والظروف الحرجة، أجرة زوجي التي تبلغ 1700 درهم لا تكفي لسداد تكاليف علاجه الخاصة، فكيف بتأمين متطلبات الحياة اليومية؟، ثم أردفت بالقول ” كنت أراهن على مشروعي الصغير في أفق أن أطوره حتى يستكمل عناصر القوة ومقومات النجاح ، لكن الجائحة لم تمهلني “.

إلا أن حس التضامن والتكافل في المجتمع المغربي ساعد حربال بعض الشيء في تدبير معيشها اليومي خلال ما مضى من فترة الحجر الصحي، لا سيما إخوتها وبعض معارفها، لكنها لم تتمكن مع ذلك من أداء سومة كراء المحل، وكلها أمل في أن تتدارك الأمر مستقبلا.

وحول مدى استفادتها من الدعم الذي قدمته الدولة للمتضررين من الجائحة، قالت ” لم أستفد من أي دعم بالرغم من قيامي بالإجراءات المطلوبة، فقد أعددت الطلب بشأن ذلك، كما راسلت الموقع الخاص بالشكايات حول الموضوع، ولا زلت أنتظر الرد”.

إصرار حربال على الصمود، جعلها تترصد ما تبثه وسائل الإعلام الوطنية، علها تستبشر بمبادرة أو دعم يكون طوق نجاة لمشروعها “الخداج”، كما أن الآمال ماتزال تحذوها للاستفادة من قرض بنكي استثنائي في إطار خدمة “ضمان أوكسجين”.

بالرغم من كل هذه الإكراهات والعوائق تظل آمال عائشة حربال كبيرة ، فهي تطمح لإنشاء جمعية أو تعاونية لتعليم أكبر عدد من الفتيات والنساء فنون الطرز والخياطة تمكنهن من فتح مشاريعن الخاصة في المستقبل، داعية كل شخص في وضعية إعاقة، إلى التحلي بالعزيمة وعدم اليأس، واستثمار نقاط القوة لديه لإثبات ذاته وإبراز قدراته على العطاء في المجال الأنسب له.

قد يعجبك ايضا
جار التحميل...