طنجة: محمد الدريسي ‘الذاكرة الحية’

إن المتأمل في الأعمال المعروضة حاليا في رواق الفن المعاصر محمد الدريسي بطنجة، يدرك أن الأمر يتعلق بعودة إلى تجربة خلق وتجريب وبحث مارسه المرحوم الدريسي في تشكيل حياة طافحة بالدعابة والسخرية ومطلق الحرية.
إن المتأمل في الأعمال المعروضة حاليا في رواق الفن المعاصر محمد الدريسي بطنجة، يدرك أن الأمر يتعلق بعودة إلى تجربة خلق وتجريب وبحث مارسه المرحوم الدريسي في تشكيل حياة طافحة بالدعابة والسخرية ومطلق الحرية.

إن تجربة ” محمد الدريسي ” الفريدة من نوعها شكلا ومضمونا تؤكد لنا على أنه كان يمارس عمله بجدية ،بعمق وطلاقة المعلم المتمكن من مواده وتقنياته، والمطوع لخياله وموضوعاته و المبلور لرؤيته الخاصة في ترويض المادة وابتكار الأشخاص والأشكال والفضاءات الجديدة، لصياغة حكي عميق الدلالة لمواجهة مسكوتات عنها بكاملها وارتياد آفاق مختلفة وغير متوقعة.

إن ” الدريسي ” في هذا المعرض لا زال يفاجئ جمهوره وحتى محترفي الفنون التشكيلية، بقدرته على إرباك علاقتنا بالمألوف والمكبوت، بقدرته وكفاءاته على الخلق المتعدد والجديد بتعبيرية جديدة وذات طابع خاص…

لا يمكننا فهم الدريسي دون أن نأخذ بعين الاعتبار انتماءه إلى محيطه الصغير، إلى الثقافة المتوسطية، إلى مواردها ،تقنياتها و إلى مغامراته الحياتية في العمل والتمرد والإبداع، ففي مسقط رأسه تطوان سنة 1946 ترعرع في ظل مغرب ما بعد الاستقلال بتقاليده وأعرافه، عاش المدينة العتيقة بطقوسها، وتكون في مدرسة الفنون الجميلة، كما استفاد من محيطها الجبلي والساحلي ومن كافة المشاهد التي تحيلنا على الثقافة العريقة التي يتقاسمها أهالي البحر الأبيض المتوسط.

إن حضور ذكريات الطفولة ومعاناة الشباب والثقافة المغربية بمــكوناتها دفــعت ” الدريسي ” للتعبير عن هواجسه والسخرية من المتجاوز، ليمزج بين الذاكرة والحرية وهو يأخذ مسافته اللامحدودة مع الواقع ليترك لنا أعمالا تفاجئنا، وتثير فينا حب قراءته وتحليله، وتخلخل مفاهيمنا ورؤيتنا إلى حد الإحراج…

كان ” الدريسي ” بسيطا في حياته معقدا في أعماله، كله حيوية ونشاط، و لا زالت أعماله تنقل لنا سره العميق وتفسر لنا الخطوات التي قطعها فنيا والمغامرات التي عاشها في مختلف مراحل حياته…

من عيون الدريسي إلى وجوهه، ومن أجساده العارية أحيانا والمشوهة أحيانا أخرى، تبرز الأفواه، الشوارب ، النهود… وتتشكل الرؤوس لتكسوها الألوان القاتمة باحمرارها وزرقتها وسوادها…، لتستفز فينا رؤيتنا لعالم شبه ميت بالتجاهل، النسيان، الخجل والخوف…
لكن الدريسي يطلق العنان لخياله ليحاصر موضوعا ما، ليعبر به عن ملابسات الأفكار الخادعة الخائنة، الكاذبة مما يصيب الإنسان بالذهول، بالوهم، بالنسيان… وكل ما ينسج سلطة أنظمة وقوانين الجمود والسكون، وهو يتنقل من المدينة إلى الطبيعة، من الأبواب إلى الساحات، من المنازل إلى الحانات ليلقي بنظرته على الجالسين والواقفين، على المنعزلين والمجتمعين، على المندمجين والمنحرفين فيصورها لنا في وضعيات وحالات كما يريدها هو، ليلعب في ذلك دور الموثق، الشاهد، الفاضح، الناقد بمجرد صورة واللاعب دون أن يفسر شيئا…

في كل عمل تتفاعل السخرية بالموضوع، كأنه يمارس لعبة ما أو يرسم لنفسه فقط، أوكأنه في عالم طفولته الناضجة في عبثية التوثيق المازحة، فهو الذي كان يرفض التفسيرات والشروحات، ويمقت التنظيرات والإسقاطات التي مارسها البعض على التشكيل المغربي، حاصل على شهادة ” التطبيب الفني ” من مدرسة الفــــــنون البــــصرية مــــــن ” نيويورك “، الأمر الذي يفسر اختياره الفني، موضوعاته وأشكاله التي يأخذها دائما في كل عمل من أعماله التي تعكس الواقع في قالب إبداعي يكسوه الإسقاط وتغطيه الرمزية اللاأوحادية البعد كما جاء على لسان François Devalière :

* في البدئ هناك الغياب. فالأم، بالأسود، متكتمة، ومعها كل تقاليد تطوان، تقاليد الريف، تقاليد المغرب الاسباني، تقاليد الأب، المساعد في الحرس المدني والمنخرط في قوة الواجهة، تقاليد فقر الطفولة والحياة القاسية التي كان يتطلبها الحصول على الحق في الرسم. لقد اقتحم الدريسي قوة حياته القاسية، وحياة أمه وأسفاره بين المخازن، وغسل الأواني في الفنادق، والأعمال الصغيرة بأجرة زهيدة. لقد كان يدي سيدة نبيلة كانت ترسم الزهور، ومساعد رسام كان يحكي الأفعال الكبرى للقراصنة في جداريات ” بطوري دوي مونيا “. التقى بفتيات الحانات، بالمتحكمين في المواخير، بجدران السجون في ” ستوكهولم “، بالأطفال المصابين بالدهان في ” نيويورك “. وبكل الغبار الذي جمعه ” محمد الدريسي ” من طريق إلى طريق صاغ أقنعته، ورسم الشخوص المرمية أمام أبصارنا، حضورها يملأ غيابه، وما يمنحه للرؤية، هو هذه الوجوه التي تسكنه، تتحول وتنظر إلينا من جهات العالم الأربع*.

لا شك أن لأعمال الدريسي أثارا فعالة في الساحة الفنية كما كانت له شخصيا قوة إثارة،إعجاب، ارتباك وخوف، تلك التي تجلبنا أو تبعدنا من عمل ما أو لقاء ما معه، إنه كذلك التواصل معه دائما لا غبار ولا ضباب عليه، كل شفرات خطابه واضحة إلى حد الإعجاب أو النفور، علما أن وراء ذلك كله وضوح وعواطف ومشاعر قوية بمقدار قوته وحيويته…، كذلك كان في علاقته مع زوجته “ماريا” ابنه “محسن” أفراد عائلته أصدقائه و حتى أعماله.

لم يكن يهدي أو يبيع أعماله مجاملة أو ما يشابه ذلك، فكم من مرة رفض البيع بأثمان باهضة لمن لا يحس فيه عشق الفن، أو انتابه حدس بأن عمله سيهمش ولن يحظى بقيمته، كما أنه كان يرفض بتاتا الإبداع تحت الطلب…

من علاقة إلى أخرى، من مدينة إلى مدينة، ومن بلد إلى آخر ومن وضعية إلى حالة، كان الدريسي ينسج عوالمه المنفتحة والحرة مع كافة الأجناس في تطوان، المضيق، طنجة، أصيلة، الرباط، مدريد، برلين، فرانكفورت، ميتينكن، ونيويورك… ليخترق الحدود، المألوف، الساكن والجامد بعين ثاقبة قلقة بحب الوجود والإنصات إلى الحنان الضائع في الطفولة، في المرأة، في الشيخوخة وفي الواقع الكئيب الذي يصوره في شؤمه بالسواد وأجواء البؤس…

من الرسم والصباغة والحفر إلى النحث كان الدريسي يرصد تحولات عالم كمهندس خبير في بناء أعماله، كطبيب متمكن من عمق مرضاه، شخوصه، وجوههم، نظراتهم…، وهو يعيد صياغة الجمال ضاربا عرض الحائط كل أنواع المساحيق، الإضاءة الاصطناعية، والأقنعة وكل ما يخفي الوضوح…
مات محمد الدريسي سنة 2003 بباريس وهو يستكشف عالما فنيا جديدا، بعد ما عرف داخل المغرب وخارجه بقالبه الفني ورؤيته للعالم، كان إزاء بناء جسر جديد لمرحلة لاحقة، ربما كانت ستعرف سيلا من المنحوثات الكبيرة استمرارية لعالمه الفني…، رحل عنا تاركا جديده الذي لم يقتحم بعد من طرف مفككي الفن ومنفذي المناهج، في حين تعرف أعماله المزيد من الإبهار والإعجاب والاهتمام البالغ…

رشيد أمحجور – طنجة نيوز

قد يعجبك ايضا
جار التحميل...