بقلم الدكتور سفيان الشاط: أوقفوا العاهات السلبيين على وسائل التواصل الاجتماعي
في عصرٍ باتت فيه الكلمة تصل إلى ملايين البشر في لحظة، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منصة ضخمة للتأثير والتوجيه، سواء إيجاباً أو سلباً. غير أن ما يثير القلق هو صعود فئة من المستخدمين الذين يمكن وصفهم بالعاهات السلبية، ممن يسعون إلى الشهرة من خلال المحتوى السطحي، أو السخيف، أو المخلّ بالأخلاق والذوق العام، دون أي اعتبار للقيم المجتمعية أو المسؤولية الإعلامية.
هؤلاء الأشخاص لا يحملون رسالة، ولا يقدمون محتوى ذا قيمة معرفية أو فنية أو حتى ترفيهية راقية، بل يملؤون الفضاء الرقمي بمظاهر التشويه والتفاهة والتخلف. يتفننون في اصطناع المشاهد المثيرة للجدل، والمواقف الاستفزازية، وإثارة الفتن أو السخرية من الآخرين، وكثيرًا ما يجنون من وراء ذلك آلاف المتابعين والإعلانات، مما يكرّس سلوكًا خطيرًا يتمثل في “تسليع التفاهة”.
إن خطورة هذه الظاهرة لا تكمن فقط في تدنّي الذوق العام، بل في التأثير العميق على فئة الشباب والمراهقين، الذين يتخذون من هذه النماذج قدوة أو طريقًا سهلاً إلى “النجومية”. فتنتشر القيم الفارغة، وتضعف النزعة إلى التعلّم والاجتهاد والإبداع الحقيقي.
من المؤسف أن كثيرًا من هذه “العاهات” تجد رواجًا واسعًا بسبب دعم جماهيري أعمى، ومتابعة عشوائية، بل وأحيانًا دفاعًا عن “حرية التعبير”، دون وعي بأن هذه الحرية لا تعني الفوضى أو الإسفاف أو إهانة الذوق العام. فحرية التعبير مسؤولية قبل أن تكون حقًا، ولا بد من ضبطها بقيم المجتمع وأخلاقياته.
المسؤولية هنا مشتركة: تقع على عاتق الأفراد، وعلى مؤسسات الإعلام الرقمي، بل وعلى السلطات الثقافية والقانونية. فلا بد من وجود سياسات تنظيمية أكثر فاعلية، تقوم على مراقبة المحتوى ومحاسبة المسيئين، وتحديد معايير النشر والمسؤولية الأخلاقية.
كذلك، لا بد من تفعيل دور التعليم والإعلام النزيه في رفع وعي الأفراد بخطورة الظواهر السلبية على الفضاء الرقمي، وتحفيزهم على دعم المحتوى الإيجابي الذي يبني الوعي، ويعزز القيم، ويحفّز على التفكير النقدي والإبداع.
نماذج تطبيقية ونصوص قانونية ذات صلة
تتجلى خطورة الظاهرة قيد الدراسة في نماذج واقعية متعددة تؤكد حجم الانحدار القيمي الذي يشهده الفضاء الرقمي، خصوصاً على منصات التواصل الاجتماعي ذات الشعبية الواسعة مثل “تيك توك” و”إنستغرام” و”يوتيوب”. وتتمثل بعض هذه النماذج في:
• التسويق للمحتوى الفارغ والهابط، الذي يعتمد على الإثارة الجسدية أو السلوكيات غير اللائقة لجذب الانتباه، خصوصاً بين فئة المراهقين.
• تمثيل مشاهد العنف أو الإذلال أو التحرش بغرض خلق تفاعل جماهيري، بغض النظر عن الأثر النفسي أو المجتمعي لذلك.
• ادعاء صفات مهنية أو دينية أو علاجية دون ترخيص قانوني أو خلفية علمية، وهو ما يعرض المتابعين للغش أو الخداع.
• السخرية من المؤسسات أو الأفراد، وافتعال مواقف محرجة أو مهينة للغير دون موافقتهم، تحت ذريعة “الترفيه”.
تساهم هذه النماذج في تشكيل وعي اجتماعي سلبي، وتؤثر في البنية الثقافية، كما تسهم في تمييع المعايير الأخلاقية التي يُفترض أن تضبط الفضاء العمومي الرقمي.
الإطار القانوني المنظم للمحتوى الرقمي (نموذج القانون المغربي)
يحدد التشريع المغربي عدداً من النصوص القانونية التي يمكن تفعيلها في مواجهة هذه الظواهر، ومنها:
• الفصل 447-1 من القانون الجنائي المغربي:
ينص على أنه “يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من 2.000 إلى 20.000 درهم كل من قام عمدا، وبأي وسيلة بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية، بالتقاط أو تسجيل أو بث أو توزيع أقوال أو معلومات صادرة بشكل خاص أو سري، دون موافقة أصحابها. ويعاقب بنفس العقوبة، من قام عمدا وبأي وسيلة، بتثبيت أو تسجيل أو بث أو توزيع أو بث أو توزيع صورة شخص أثناء تواجده في مكان خاص، دون موافقته.”
ويدخل في ذلك تصوير الأفراد في أماكن عامة أو خاصة دون إذنهم، كما يحدث في بعض المقالب المصورة.
• الفصل 263 من القانون الجنائي:
” يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من مائتين وخمسين إلى خمسة آلاف درهم، من أهان أحدا من رجال القضاء أو من الموظفين العموميين أو من رؤساء أو رجال القوة العامة أثناء قيامهم بوظائفهم أو بسبب قيامهم بها، بأقوال أو إشارات أو تهديدات أو إرسال أشياء أو وضعها، أو بكتابة أو رسوم غير علنية وذلك بقصد المساس بشرفهم أو بشعورهم أو الاحترام الواجب لسلطتهم.
وإذا وقعت الإهانة على واحد أو أكثر من رجال القضاء أو الأعضاء المحلفين في محكمة، أثناء الجلسة، فإن الحبس يكون من سنة إلى سنتين”
ويشمل ذلك الإساءات اللفظية أو التصويرية التي قد يروّج لها بعض صناع المحتوى بقصد السخرية أو التقليل من احترام المؤسسات”.
• القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر:
يجرّم نشر الأخبار الزائفة والمحتويات التحريضية أو المسيئة التي تمس بالنظام العام أو الحياة الخاصة للأفراد، ما يجعل من بعض المواد المنتشرة على المنصات الاجتماعية خاضعة للتجريم.
بناءً على ما سبق، تبرز الحاجة الملحّة إلى ما يلي:
1. تفعيل المساءلة القانونية في مواجهة السلوكيات الرقمية المسيئة، وتطبيق النصوص القانونية بشكل حازم.
2. تعزيز الرقابة الذاتية لدى الأفراد، خصوصاً فئة الشباب، من خلال التربية الرقمية ومناهج الإعلام التربوي.
3. إعادة النظر في خوارزميات الترويج داخل المنصات الرقمية، بحيث لا تكافئ المحتوى التافه أو المخلّ.
4. تشجيع المحتوى الهادف ودعمه ماديًا ومعنويًا، باعتباره بديلاً راقياً عن التفاهة الرائجة.
وفي الختام، نقولها بصوتٍ عالٍ: أوقفوا العاهات السلبيين على وسائل التواصل الاجتماعي. فالمجتمعات التي تريد أن تنهض، لا يمكن أن تسمح بأن تكون واجهتها أمام العالم مجموعة من صناع المحتوى التافه، بل لا بد أن تفتح المجال أمام العقول الناضجة، والأفكار البناءة، والصور المشرّفة التي تعبّر عن هوية حضارية راقية.