حكاية أستاذ مختلف

بقلم: عبد الصمد الشنتوف

لم أكتب عن أستاذ من قبل، على الرغم من أني فكرت في الأمر مرارا. أخشى أن أرمى بالمديح المبالغ فيه والتملق. الأستاذ الوحيد الذي كتبت عنه هو والدي، ذلك أني خرجت من صلبه، وعلى يديه تعلمت أبجديات الحروف العربية.

القصة قديمة. تعود إلى زمن بعيد، حين كنت أرافق أبي إلى مدرستي الأولى قرب ميناء المدينة. مازالت ذكرياتها تسرني كلما تواردت على خاطري. أيام الصبا. أيام البراءة الطفولية. المسافة بين بيتنا والمدرسة لا تكاد تتجاوز الميل الواحد. كنت أقطعها رفقة والدي وعمري ست سنوات. مرورا بمحطة طرقية تضج بالصخب والدخان، يتوقف أبي قليلا عند دكان لحسن ليمدني بقطعة من حلوى الفانيد، ثم يفرغ في جوفه كأسا من اللبن الطازج على وقع صوت رخيم لفيروز، يتهادى من مذياع قديم مغبر، وكأنه يتزود بشحنة من السعادة والصبر تعينه على تحمل صعاب التدريس.

من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن أستوعب ما حدث قبل بضعة أيام.

أن يتجشم مشقة السفر أستاذ بحجم الهرم، استبد به العمر وطغى، ونالت منه تضاريس الزمن، مستقلا حافلة عمومية وطاكسي لمدة ساعتين ليشهد حفلا يخصني، لم يكن بالنسبة إلي أمرا عابرا. أشعر وكأني تلقيت درسا جديدا وبليغا عن الحياة. قلت في نفسي: الحياة لا تقاس بالسنين، وإنما تقاس بالقيم الراقية والمعاني الرفيعة.

لست أدري من أين تكون البداية في الحديث عن قيدوم أساتذة المدينة.

على وقع موسيقى صامتة، دلف في هدوء إلى قاعة شبه معتمة متحسسا خطواته، أضواء خافتة تشع من السقف. كنت لحظتها جالسا على الأريكة منهمكا في حديث ثنائي مع الأستاذ بلال، شاب طموح ينحدر من شفشاون يدرس بإحدى ثانويات طنجة. وإذا ببصري يقع على أستاذي متأبطا نسخة من كتابي، يجر خطاه بشوق وفرح مرتسم على محياه. جاء قادما من مدينة البحارة يبحث عني، وليشهد حفل توقيع إصداري. استدار يمينا، فإذا بعينيه تصطدم بعيني، وقفت مشدوها غير مصدق، تقدمت نحوه محنيا ظهري قليلا. أقبلت على معانقته. قبلت رأسه. قلت له ما كان عليك أن تتكبد كل هذا العناء سيدي وقد بلغت من العمر عتيا، رد علي بتواضع جم: أتيتنا بإبداع جميل، لذا تستحق أن آتي إليك!

انتابني خجل عميق. تجمدت في مكاني برهة. لبثت أنظر إليه ذاهلا دون أن أهتدي لشيء أقوله.

فجأة، انتفضت ذاكرتي وعادت بي زمنا بعيدا إلى الوراء، إلى بداية الثمانينات حين كان الأستاذ لا زال شابا ممشوقا ووسيما، بشعر أسود فاحم، كان يخرج من إدارة المؤسسة حاملا معه محفظة سوداء، مرتديا بدلة أنيقة بلون رمادي غامق، وربطة عنق حمراء وكأنه عريس في أبهى حلة. يقطع المسافة بين الإدارة والقسم في تؤدة، يمشي بخطى ثابتة مهاب الجانب، مخترقا جمعا غفيرا من الطلبة، يحيي بعضهم ويتبسم في وجه آخرين، وهو في طريقه إلى الفصل لبدء حصة تدريس الفلسفة.

ذات يوم، رمقته في وسط ساحة الثانوية منخرطا في جدال حاد مع طالب متحمس يدعى لطفي حديث العهد بالفلسفة. يتعالى صياحهما. بدا الأستاذ متوترا. كان الطالب مندفعا لكن النبوغ يلمع في عينيه، مهووسا برواد الفلسفة الحديثة كسبينوزا، كانط، ونيتشة. يصرخ ويثور في وجه أستاذه تارة، ثم يهدأ تارة، بيد أن الأستاذ كان دمثا، صبورا، ومتسامحا إلى أبعد الحدود. لم يفكر يوما قط في الانتقام من الطالب المشاكس. كان بإمكانه أن يمطره بأصفار مصفرة، إلا أنه لم يفعل، نفسه تأبى ذلك. ترفع عن سلوك ضعاف النفوس والأنذال. على العكس، مع مرور الوقت تمكن من احتواء الطالب، وأصبحا صديقين ودودين.

انطلق الحفل. اقتعد الأستاذ أريكة وتيرة في المقدمة. كان ضيفا مميزا. ألقى مدير الفضاء كلمة ترحيب بالحضور والكاتب.

جاء دوري، صعدت المنصة في هدوء، ثم شرعت في إلقاء العرض بعفوية معهودة. ظلت عيناي ترقب الأستاذ وهو يصغي باهتمام فائق. سرعان ما أخرج قلما وكراسة وأخذ يدون انطباعاته وملاحظاته.

بمجرد ما فرغت من العرض، تهاطلت الأسئلة واحتدم النقاش. طلب الأستاذ الميكرفون. ارتجل كلمة دافئة مبديا انجذابه وإعجابه بالإصدار، وقال: شدني النص السردي وأذهلني، لاسيما وأنه يتضمن معلومات عديدة لم أكن أعرفها، كما حلق بي بين ثنايا عاصمة الضباب وشوارعها. حقا استمتعت بالكتاب إلى حد الثمالة.

انتهى الحفل. وقعت نسخة الكتاب للأستاذ، ثم نهضنا لمغادرة القاعة. داهمنا هواء بارد وقد وقفنا عند مدخل فضاء دباتيك، تبادلنا أخبارا مستهلكة عن المدينة وشخصياتها. لم يفتأ الأستاذ أن أبدى رغبة عميقة في الحديث، حتى بادرته بدعوة إلى مأدبة عشاء بمطعم. جاء دوره ليحكي، أخذت أنصت إليه باهتمام وشغف.

انطلق يحدثني عن والديه الطنجاويين، وعن هجرتهما إلى القنيطرة زمن الاستعمار. حكايته سوف يكملها لي بمطعم “وليد” للسمك، حيث تسود أجواء مخملية لذيذة. استعرت في حنايا نفسه رغبة الكلام. شرع يغوص في حديث ماضيه. اتسعت عيناي من الدهشة وأنا أصيخ إليه السمع. لم أتحدث إلا لماما. طفق يحدثني عن زميله الشاعر الراحل حسن الطريبق حينما اشتغلا سويا بثانوية “تيجيريا”، مشيدا بسمة التواضع التي كانت تطبع شخصيته، وعن علمه الغزير باللغة وتبحره في الأدب العربي. توقف هنيهة وبدأ يفكر، وكأنه يلتقط أنفاسه ليستريح، سرعان ما شبك يديه وأخذ يقلب في صفحات ذكرياته. تذكر حكايته مع صهر الوزير، المدير الصارم الذي كان يرتعد منه الجميع. فأردف قائلا: ذات مرة، بينما نحن على متن الحافلة تجاه مراكش في رحلة جماعية، ارتأى للسيد المدير أن يوقف الحافلة لسبب تافه لم يرتضيه أحد، فما كان مني إلا أن عارضته مشيرا للسائق بعدم التوقف، معللا ذلك بأني المسؤول عن برنامج الرحلة، ما لبثت أن انتفضت في وجهه بعدما أمعن في الإصرار، وصحت بقوة: أنت مدير في الثانوية وأنا مدير في الحافلة، فما كان من المدير إلا أن امتثل للأمر واعتذر بعد ذلك.

في الليل، عندما وضعت رأسي فوق الوسادة، ظل سؤال يطرق رأسي طيلة ساعات حتى جفاني النوم. سؤال أرقني.

انتزعت جسدي من الفراش وجلست مستغرقا في التفكير، لبثت أحملق شاردا في المرآة. لا أعرف لماذا فكرت في مقولة فرانس كافكا: العالم الذي في رأسي أكبر من العالم الذي رأسي فيه! انتهيت إلى أنها مقولة تافهة. ربما لم أفهم ما يقصده الروائي التشيكي الغامض، ذلك أن كتاباته تعج بكوابيس وسوداوية مفرطة.

طيف الأستاذ لم يفارق خيالي، همست في نفسي: من أكون حتى يصنع كل هذا من أجلي؟.

عدت إلى النوم ملتحفا غطائي، استلقيت على ظهري. صوبت بصري إلى الأعلى محدقا في السقف برهة. تراءى أمامي والدي محلقا في السماء، كان ينظر إلي بابتسامة حانية وكأنه يفخر بإبنه الذي صار كاتبا. صور غزيرة تهاطلت على مخيلتي كما تتهاطل الأمطار على سفح الجبل، تذكرت أبي وهو يسير بجانبي على ممشى ضفاف نهر تايمز الداكن، ثم اخترقنا حديقة هايد بارك الأخاذة، بعدئذ مرررنا بشارع أكسفورد البهيج وساحة بيكاديلي الآسرة، إلى أن بلغنا ميدان الطرف الأغر التاريخي. انهمك في مداعبة الحمام مستمتعا بإطعامه بالفتات. استهوت أبي حدائق لندن وسحرته إلى أبعد مدى.

لن أنسى ذلك اليوم الذي كنا نتجول وسط شارع بورطوبيلو، فإذا بمهاجر ضئيل الجسد، وتجاعيد قاسية على وجهه يرتمى على والدي، يحضنه ويقبله دون أن نعرف السبب، فجأة انحلت عقدة لسانه قائلا: أنا “عمر تركيستي” درست عندك في نهاية الستينات قبل هجرتي إلى بريطانيا. تسمر أبي مكانه ولم يدر كيف يرد، فكيف له أن يتذكر كهلا نال منه الزمن حين كان طفلا، مضيفا عمر بنبرة متهادية: أنت معلمي وأستاذي الحنون، كنت متفانيا ومخلصا في عملك، لن أنساك أبدا، لأنك تنتمي إلى جيل فريد.

فكرت مليا في هذه الكلمة “جيل فريد”، قلت، لاريب أن الأستاذ عبد المجيد ينتمي أيضا لهذا الجيل. فالرجل أخلص لوطنه ومدينته. أفنى زهرة شبابه في تعليم أبناء العرائش، دون أن يمنعه شيئ عن تقفي خطواتهم ونجاحاتهم بعد ردح من الزمن.

كم عظيم أنت في عطائك وإنسانيتك. فحقا أنت بقعة ضوء زاهية بتسامحك وسخائك.

أقولها بلا تردد، أنت أستاذ مختلف. الأستاذ الإنسان.

شكرا من القلب، وبحجم السماء…!

طنجة/ 10 فبراير 2023

قد يعجبك ايضا
جار التحميل...